غوانتانامو الكبرى

28/10/2010
توجان فيصل
لا يجوز أن تبقى أخبار جرائم التعذيب تتداول كما لو أنها نشرة جوية على الجميع التعايش معها أو اتقاء شرها، وليس التصدي لها. لا بل إن تلك القلة التي باتت تستثمر كل شيء، بما فيه أحوال الطقس، باتت تستثمر التعذيب أيضاً وبصورة مكشوفة لم يعد ينقصها الدليل والبيّنة الدامغة. والمجتمع السياسي الدولي، الذي تقوم منظماته بإصدار تقارير وإحصائيات عن التعذيب، بلغ نفاقه المكشوف حد تحجر الشعور الوقح . فالكل يعرف الحقيقة، ولكن لا أحد يبدو راغباً في فعل شيء جاد، ببساطة لأن موضوع التعذيب سُيّس لدرجة أنه أصبح يمارس بناء على اتفاقيات وضمن حزم خدمات تقدّم مقابلها معونات مالية ودعم سياسي.

وهو ما همّش أثر كل الاتفاقيات الدولية المجرّمة للتعذيب، وبات تطبيق تلك الاتفاقيات انتقائياً لدوافع سياسية وليس قانونية وإنسانية. ونؤكد هنا أن اعتراضنا ليس على من يحاكم، ولو انتقائياً، ما دام تورط في جريمة التعذيب، ولكن اعتراضنا هو على عدم تطبيقه حيث أصبح التعذيب منهجياً وكما تشير تقارير أممية، وأيضاً تقارير مستقلة لمنظمات حقوق إنسان أهلية.
فقد سمعنا مراراً وتكراراً اتهامات لحكومات عربية بتقديم خدمات تعذيب لأمريكا، ثم يدفن الأمر عند إنكار الدول المتهمة وصمت الدولة (أو ربما الدول فمن يدري في غياب أي تحقيق جاد ونزيه) المشترية للخدمة.
والأمر يتم بزعم " مكافحة الإرهاب"، في حين يعلم الجاهل قبل العالم أن الظلم أكبر مصدر للعنف في العالم كله، وأن الإرهاب عنف سياسي أو اجتماعي مضاد لعنف آخر سابق أغلبه سياسي تحوّل لاجتماعي، وبخاصة في ظل تزاوج الفساد مع القمع.
والتزاوج الأكثر خصوبة والذي أنجب ذريات من الشر بأشكال وأسماء لا تعد ولا تحصى، هو يميز عالمنا العربي الإسلامي تحديداً.. هذا لمن يريد أن يفهم ويشخّص ويعالج، وليس من يريد أن يستثمر، من بائع لمشتر.
ولكن القوى الكبرى لا تريد أن تعالج، بل هي تريد مفاقمة الوضع بحيث يمكنها أن تحوّل بلادنا لأرض قراصنة يمارس فيها حكام العالم الأول كل ما لا يتاح لهم ممارسته على أرضهم لأن قوانينهم تمنعه.
وقد سبق أن كتبت، من على هذا الموقع وغيره، عن غض العالم الغربي الديمقراطي النظر عن كل ما يجري من فساد في عالمنا العربي، وبخاصة حين تم غزو العراق بشكل رئيس لتحويل هاليبرتون من شركة على وشك الإفلاس لشركة رابحة بفحش غير مسبوق.
والكل بات يعرف من هم مالكو هاليبرتون والشركات الأخرى المنضوية تحت اسمها. ومن أصغر المساهمين السياسيين في مجموعة هاليبرتون مادلين أولبرايت، بينما من أكبر المساهمين عائلة بوش وديك تشيني .
ولهذا يجدر التوقف هنا عند قول أولبرايت صراحة ومن قلب أمريكا، بل ومن قلب إحدى جامعاتها العريقة حيث واجهها الطلبة بالسؤال الاتهامي، أن قتل نصف مليون طفل عراقي ثمن مناسب لمصالح أمريكا في العراق.. وثبت الآن أنها ليست حتى مصالح أمريكا الدولة والشعب، فتلك تضرّرت بشكل فادح من ذلك الغزو، بل هي مصالح هاليبرتون.
عولمة التعذيب هذه التي فاقمته، والتخطيط له والتفنن في ابتداع وسائله بحيث يصبح ممارسة سادية تورث أمراضاً نفسية للمعتدي كما للمعتدى عليه بدأ العالم كله يدفع ثمنها الباهظ بما يفوق ثمن حربين عالميتين، يعود لإسرائيل.
وإسرائيل باتت تسوّق نفسها لدى الغرب على أنها خبيرة مضمونة النتائج في "كيفية التعامل مع العربي".
وما جرى في العراق عند وبعد احتلاله هو بالكامل "وصفة" إسرائيلية، خبراء إسرائيليون هم الذي وضعوا تفاصيلها.. ومنه أيضاً تدمير كل البنى التحتية والتراث الإنساني والحضاري للعراق كونه لغير اليهود، وهي سياسة الأرض المحروقة التي أوصى إلههم يهوا بها، والدماء التي طلب أن تسال بكثافة في كل أرض يحتلونها حتى ترتوي كرمته وتنبت "عناقيد الغضب".. ومنها تسمية بيريز (العلماني المسمى عرّاباً للسلام) للمجزرة التي ارتكبها في قانا.
ولكن تطوير وسائل إسرائيل الجهنمية في التعذيب أدخل في القاموس العالمي تسميات مستجدة لهكذا جرائم، منه ما بات يسمى بجرائم سجن "أبوغريب"، مع أنه كان يمارس في كل سجون العراق منذ بداية الاحتلال، بل وفي عدد من وزارات ودوائر الحكومة التي شكلها الاحتلال .. ومنه ما بات يسمى "غوانتانامو" كحالة تؤشر إلى نوع جديد من المعتقلات، ليس أسوأها سجن غوانتانامو ذاته.
فكامل السجون الإسرائيلية حيث يحتجز فيها أحد عشر ألف أسير فلسطيني، وبخاصة السجون المخصّصة للقاصرين والتي يشهد مسؤولو حقوق الإنسان الأمميون على أنها الأسوأ، كلها غوانتانامو مقامة في أرض قراصنة (أي على أرض يستولي عليها ويحكمها قراصنة) بالمعنى الحرفي للتعبير في حالة إسرائيل، كون من احتلوا هذه الأرض ويحكمونها هم قراصنة أتوا من البحر.
ونيّة إسرائيل إلباس الأسرى الفلسطينيين زي غوانتانامو البرتقالي، هو إعلان أن سجون إسرائيل المخصّصة للفلسطينيين هي كلها غوانتانامو. فاعتماد الزي الذي أصبح رمزاً لجريمة ضد الإنسانية مدانة عالمياً وبالإجماع، فيه تحدٍّ للشعور الإنساني العالمي، بل وفيه مفاخرة بجرائم التعذيب، من النوع الذي اقترفه عدد من المجندين والمجندات الأمريكان في أبوغريب استدعى محاكمتهم عند انتشار الصور لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من صورة أمريكا.. مع أن من ظهروا في تلك الصور ليسوا بالضرورة من قام بأبشع أنواع التعذيب الذي جرى في تلك المعتقلات .ثم إن من أمر بها وأجازها يتحمّل جريرة أكبر بأضعاف مضاعفة.
وبما أن المجتمع الإسرائيلي يعرف هذا الذي فعلته وتفعله حكوماته كلها على اختلاف تلاوينها، وأغلب من قاموا بها - ودولتهم من وراءهم- يباهون بما قاموا به.. فإن قبول زعم أن اليهود ضحايا تعذيب وإبادة يجب أن يرفض تماماً. فحتى لو كان آباء وأجداد هؤلاء ضحايا، فإن أبناءهم أصبحوا نازيين جدداً فاقوا النازيين القدامى.
ولكن الأهم والذي يتخذ أولوية قصوى في التصدّي له ومحاكمة من يرتكبونه بجريمتي الخيانة العظمى وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، هم القائمون على سجون السلطة، ومعهم وقبلهم من يعطيهم الأوامر بالتنسيق مع الاحتلال بدءاً من تجهيز قوات دايتون وسجانين ممن يسمّون " الفلسطينيون الجدد" الذين قال دايتون نفسه إنهم حالات غير بشرية لم يكن يتصوّر أن بالإمكان تصنيعها من بين صفوف الشعب الفلسطيني ..فهؤلاء الذين جرى مسخهم نفسيًّا على يد الاحتلال وأكملت السلطة تصنيعهم بحيث تحوّلوا من ضحايا عنف إلى "إرهابيين " بحق، بدأت تتوالى الروايات والشهادات - التي تنهال الكلمات فيها مع الدموع كون ظلم ذوي القربى أشد مضاضة - على ما يرتكبونه ضد سجناء من قومهم يعتقلون فقط لأنهم مناضلون أو يؤوون مناضلين، وبعضه أفدح مما ترتكبه إسرائيل.
ومثله ما بدا ينتشر في العالم العربي، كون ذات الكائنات المسخ صُنعت لخدمة أطماع ومصالح مافياتية لمجموعات حاكمة. ومؤخراً ثبت بما لا يقبل الشك أن ما مورس سرًّا طوال العقود السابقة على انتشار الفضائيات والإنترنت، ضد المعارضة السياسية، بات يمارس على كل من أوقعه سوء حظه، ولو لشبهة أو حتى دونما شبهة، في قبضة جهة أمنية بميول سادية.
فالثابت في أكثر من حالة تعذيب أدّت للموت في سجون عربية، جرى فبركة التهم لاحقاً، وهذا يظهر تحديداً في قيام محكمة النقض المصرية مؤخراً بنقض أحكام البراءة التي صدرت بحق رجال أمن قتلوا موقوفين تحت التعذيب ونكلوا بأسرهم غير المتهمة ابتداء. فالتعذيب في هكذا حالات كان يتم روتينيًّا ومنهجيًّا، كهواية تتسلى بها فئة مريضة منحرفة من رجال الأمن.
كل العرب متضررون من هذا الواقع، سياسيًّا فيما يجري لفلسطين وما يجري تحت حكم مافيات فساد تسمي نفسها أنظمة تتوارث ذلك النوع من السلطة تحديداً، أو إنسانياً كمواطنين لم يعودوا يأمنون لمن يفترض أنهم قائمون على أمنهم. والحل هو في إعادة الأمر إلى سياقه القانوني .
فالنشطاء في الخارج، والفلسطينيون بخاصة، يجب أن ينشئوا هيئة تطوعية لمحامين وأن ينشئوا صناديق خاصة أيضاً لتوفير كلف إقامة دعاوى جنائية على شخوص بعينهم ارتكبوا جرائم التعذيب.. مع أولوية للأعلى منصباً، كون القضاء الجنائي لا يعترف بحصانة لا لحاكم ولا لجنرال. والتبرّع لهكذا صناديق لا يمكن وسمه بدعم الإرهاب، وبخاصة إن تولى قضايا لمدنيين، وأيضاً إن تولى قضايا ضد مسؤولين عرب.
وفي المحصلة، تخلصنا من الفاسدين والساديين الذين يتحدثون باسمنا دونما تخويل، هو أول خطوة على طريق تحرير إرادتنا واستعادة كل حقوقنا من كل من قام بسلبها.