مقدمة:
رغم معالجة أكثر من مفكر لمسالة الهيمنة قبل المفكر والمناضل الأممي أنطونيو غرامشي، إلا أن مساهماته أدت إلى شبه حصرية هذه المسألة فيه. ربما كان همَّ غرامشي هو تفسير لماذا أمكن للدولة ومن ثم الإيديولوجيا البرجوازية أن تُبقي على تماسكها رغم الجوهر الاستغلالي لنظامها! ( لماذا صمدت الدولة الرأسمالية، خصوصا في المركز الرأسمالي، رغم التناقضات البنيوية المتأصلة في طبيعة الرأسمالية وما أنتجته وتنتجه من أزمات اقتصادية وسيااجتماعية تمثلت على سبيل المثال بالحرب الكونية البرجوازية الأولى والأزمة المالية للعام 1929 وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية)، وفي هذا السياق ربما ما لم يُعالج هو، أو أحد بعده، المستوى النفسي الذي يمكن قراءة أطروحات غرامشي على اساسه. فمقارباته السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تحلل الهيمنة تشي بفائدة ما من قراءة الأمر بعلم النفس، بمعنى كيف ينعكس التطور المادي، الحياة المادية على الطبقات الشعبية فتتمثل أطروحات السلطة التي تستغلها؟ فالهيمنة لدى غرامشي متركزة في البنية الفوقية، اليس علم النفس ضمنها؟ لكن لهذا مجال آخر.
لكن أطروحة غرامشي هذه بثوريتها ظلت محصورة في النطاق الأوروبي، اوروبا الراسمالية المتقدمة وإلى حد ما المتخلفة ممثلة في أوروبا الشرقية وخاصة الاتحاد السوفييتي عشية وبعد بضع سنوات من ثورة أكتوبر البلشفية. وبهذا المعى كان غرامشي مركزانياً أوروبياً بلا مواربة حيث لم يتطرق، على الأقل في هذا المجال، للعالم الثالث، هذا مع أن كتابات ماركس عن الاستعمار والمستعمرات قد سبقته بكثير ناهيك عن أنه عايش لينين الذي كان أول من تنبه للنظام العالمي ،وشاركه في ذلك بوخارين، ببنيته مركز/محيط وأول من تعاطى مع دور المستعمرات وشعوب الشرق في الثورة الاشتراكية، وكونه عاش فترة ما بين الحربين الإمبرياليتين والفاشية في إيطاليا . وقد تكون هذه الكتابات التي افترضت أن يقوم المركز بإعادة خلق/تطوير المحيط على شاكلته هي التي طمأنت غرامشي أن الجنة الموعودة هي في عِبِّ أوروبا فتساوق مع اختزال العالم في أوروبا تحت وهم أنها “سوف تجر، بل سوف ينجر” العالم ورائها! فأي اطمئنان غيبي! وفي هذاالاعتقاد سحب لتطور حيز ما على كل حيز آخر مهما كانت الاختلافات تاريخيا وثقافيا وواقعيا؟ وفي هذا تمهيداً لما نسميه الهيمنة الثالثة. فالأولى هيمنة الدولة البرجوازية في المركز، والثانية هيمنة الطبقات الشعبية في المركز نفسه أما الثالثة، والتي هي هيمنة المركز دولة وطبقات شعبية على المحيط ويتعاون أو حتى استدعاء برجوازية المحيط لههذ الهيمنة، هذه هيمنة مركبة من برجوازيتي المركز والمحيط، هيمنة على الطبقات الشعبية في المحيط لاختراق واحتجاز الثورة العربية الحالية.
لم يشهد غرامشي ظاهرة الأنجزة حتى نسائله فيها، لكنه ركز وطور فكرة المجتمع المدني ومؤسساته ودورها في ترسيخ وادارة هيمنة الطبقة الحاكمة— تعمل مؤسسات المجتمع المدني بالوكالة— وفي حالة الأنجزة تعمل بالأجرة– عن الطبقات الحاكمة في هندسة المجتمعات وترويضها وتوجيهها لمقتضيات ومتطلبات ومصالح الطبقات الحاكمة إن كان ذلك عن وعي أوعن دون وعي) ، لكن استخدام أهل المجتمع المدني والأنجزة لأطروحات غرامشي تخولنا مسائلتهم من منظور اطروحات غرامشي نفسها طالما ترتكز قراءاتهم للمجتمع المدني على أطروحاته لا سيما أنهم ليسوا من مدرسته حتى نفترض أنهم يضيفون إلى المعرفة الثورية تطويراً لها. ونقصد هنا تحديداً فك منظمات الأنجزة عن منظمات المجتمع المدني،أي عن الأحزاب والنقابات والجمعيات، واتحاد المرأة والطلاب ومختلف المنظمات الجماهيرية والقاعدية أنه منظمات الأنجزة آتية من الخارج (ما تمت تسميته باللكنة العلمية لعلم الاجتماع البرجوازي بمؤسسات المجتمع المدني المتخطية للقوميات Transnational Civil Society Organizations (حتى ولو بتمويلها وآتية من الأعلى لأنها تبدا بمدي/رة ومكاتب.( وفي هذا السياق نجحت الطبقات الحاكمة في المركز الرأسمالي من حشد وتجنيد مؤسسات مجتمعها المدني واستخدامها لاختراق المجتمعات المدنية ومؤسساتها في دول العالم الثاني والثالث منذ بداية السبعينيات مستهلة ذلك في دول جنوب أوروبا—اليونان،ايطاليا، أسبانيا والبرتغال لحرفها عن تطلعاتها الشيوعية والاشتراكية وجرها إلى مسار الليبيرالية من خلال الصناديق الألمانية التابعة لأحزاب المسيحية الاشتراكية والديموقراطية الاشتراكية. هذا النموذج تم استخدامه لاحقا لاختراق أوروبا الشرقية من خلال السلال الثلاثة لمعاهدة هلسنكي لتقويض اسس الدولة في اوروبا الشرقية وفي الثمانينيات تم نقل النموذج إلى أمريكيا اللاتينبة والفلبين وفي التسعينيات وحتى يومنا هذا يتم التركيز على الوطن العربي)[2].
لذا تعالج هذه الورقة في قسمها الأول أطروحات غرامشي التي بمجملها معالجة لإشكالية الثورة الاشتراكية في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الراسمالية المتقدمة في حينه، وهذا يعني أن أطروحات غرامشي هي قراءة لمجتمع هذه التشكيلة. فهي تعالج المجتمع المدني والبنية الفوقية والحزب والدولة والهيمنة بمستوييها البرجوازي والبروليتاري. وهي معالجة بهدف رؤية مدى تطابق شروطهاالأساسية مع واقعنا المحلي وذلك من مدخل نقدي /تحليلي للكثير من الخلط المفاهيمي والعملي بين أطروحات غرامشي وبين توظيفها واستخدامها وخاصة محاولات المماثلة بين المنظمات الحزبية والقاعدية ذات النبت المحلي والمنظمات غير الحكومية الأجنبية التمويل حتى ولو كانت محلية.
هذه الورقة إشكالية بذاتها حيث تعالج إشكاليات قاد استخدامها المتواصل إلى تحويلها إلى بديهيات قطعية الأمر الذي نكثِّفه في إشكالية المفهوم وإشكالية الواقع، وما يتمفصل عنه من إشكالية إدماج وخلط المفاهيم إلى درجة يُفهم منها تماثلها، وهي ليست كذلك، أي إدخال مفهوم المنظمات غير الحكومية (الأنجزة) في مفهوم المجتمع المدني والأنجزة في المنظمات الأهلية والقاعدية وإدخال هذه المفاهيم ومن ثم حضورها كبُنى في جدل التحررين الوطني والاجتماعي وهو الجدل الذي لا نُجمع عليه كفلسطينيين، فبيننا من يرى الوطني وقد أُنجز في حدود 1967 وأقل! وحتى الذين يؤكدون على هذا الجدل فمنهم من يوظف المجتمع المدني وحتى الأنجزة في مشروع التحرر الوطني مما يستوجب قراءة دقيقة نقدية ومشتبكة. وهذا لا يستقيم مع المناخ والمبنى النظري الذي صيغ للمجتمع المدني هناك في بلدان المركز وتحديداً أطروحات أنطونيو غرامشي. قد يُجادل البعض: لِمَ لا ننتج منها تطويراً على ضوء واقعنا؟ لا بأس لِنَرَ إن كان واقعنا من القوة بمكان بحيث يحمل المهمة؟
في القسم الثاني تحاول هذه الورقة فيما تحاوله تفنيد الأنجزة وتبيان إن كانت حاملاً لأي من التحررين الوطني والاجتماعي والتفريق بل إيضاح الفوارق الفعلية كما اشرنا بين الحزب والأنجزة ليس على صعيد ما يسمى منظمات المجتمع المدني بل كذلك في الواقع الاجتماعي. إن خلط الإثنين معاً يشكِّل مقتلاً لمبدأ الحزبية، وإظهاراً للأنجزة والمؤسسات الثقافية الاستعمارية الغربية من مجالس ثقافية أو ملحقيات او قنصليات…الخ ناهيك أن منظمات الأنجزة ومَن ورائها يمكن أن تحَّل الأحزاب وتصيبها بالرخاوة والمواربة ولن تملأ الفراغ المتأتي عن ذلك، وهي ليست مرشحة لتحل محل الأحزاب من حيث ولادة ودور ومهام الأحزاب وليست كفؤة لذلك. لذا فهذه العلاقة والتداخل والخلط بين الإثنين مثابة حملٍ مقلق بل مخيف.(تجدر الاشارة هنا إلى أن فكرة اختراق المجتمعات المدنية في العالمين الثاني والثالث جاءت لتفكيك المثلث الحميمي الساخن الذي وصل إلى أوجه في الستينات والسبعينيات من القرن المنصرم والذي ارتكز على الافكار الثورية والمثقفون الثوريين والطبقات الشعبية والذي كان آخذا بالإبتعاد عن المركز الراسمالي ويهدد مصالح طبقاته الحاكمة وكان يحمل بذور فك الأرتباط عنه.
يقوم التحرر الوطني اساساً على القوى السياسية المنظمة تحديداً وعماده الكفاح المسلَّح بلا مواربة وبتخصيص أدق قوامه حرب الغواروصولاً إلى حرب الشعب طويلة الأمد بالسلاح والتنمية والثقافة وتحرر المرأة بما هو أعلى من “حرية” المرأة الممنوحة من الرجل، فهل منظمات الأنجزة مؤهلة لذلك؟ هل ذلك في نيتها؟ ويقوم كذلك التحرر الاجتماعي على القوى السياسية والقطاعات المجتمعية وخاصة الطبقية منها. فهل هذه القوى والقطاعات من الاقتدار بمكان لإنجاز هذه المهمة باقتدار مجتمع مدني؟ أما والتحرر الاجتماعي هو من مهمات منظمات المجتمع المدني، فهل التحرر الاجتماعي من وظائف الأنجزة أخذاً بالاعتبار منشأها وتمويلها؟
قادتنا هذه التساؤلات إلى اكتشاف إشكالية أعمق هي تداخل واختلاط ابعد من مفاهيمي. تداخل بين دور منظمة/مكتب الأنجزة وبين الحزب السياسي، أو تلك المرونة والسهولة التي تحول الحزب إلى انجزة والأنجزة إلى حزب سياسي! هذه فقط من عجائب وإبداعات التشكيلات المشوهة. وتحول المقاومة الشعبية إلى تطبيع، والأكاديميا إلى تخارج ثقافي، والأبحاث الميدانية في الأكاديميا إلى تقارير مطلوب إنجازها حيث أراد وأصرَّ الممول على المكان والموضوع، والممول هنا انجزة أو أكاديميا أو حكومات مباشرة! باختصار، حين تصطف أية مؤسسة ممولة من الخارج إلى جانب القوى الحقيقية المكلفة تاريخياً بالتحررين الوطني والاجتماعي، وحينما ترتبط الأكاديميا بالتمويل الأجنبي بدل أن تكون قاعدة للتعليم الشعبي ومحاورة المضطَهدين، وحين يختلط التطبيع بالمقاومة الشعبية، وحين نشارك في إنتاج روايتنا بالتوازي والتساوي مع رواية العدو عن الوطن…هناك مشكلة[3].
يفتح هذا الحديث ابواباً تتوالد بغزارة، منها احتلال المفهوم أو المصطلح. ليس جديداً أن تقتنص إيدولوجيا مصطلحات من مكونات أخرى ضمن حرب الإيديولوجيات، ولا نقصد تفاعلها أو مراجعة إيديولوجيا ما لموقفها. تمثل ذلك في استخدام المصرف الدولي لمصطلحات التنمية والتنمية المستدامة، أو استخدام أل Overseas Development Agencies ODA ، مصطلح التنمية، وهذه اساساً مصطلحات للمدارس واستراتيجيات التنمية والاشتراكية. ولعل أكثر ما أُغتيل من مفاهيم كان مفهوم المجتمع المدني كما صيغ بوضوح على يد غرامشي[4]. أما مفهوم العمل الأهلي فقد خلط الأحزاب الثورية بالمنظمات المختلقة والممولة من المركز الإمبريالي. هذا ما يوجب وقوفا طويلاً حذراً.
طالما نناقش مسألة المجتمع المدني ومن مدخل كونه تراثاً غرامشياً بشكل خاص، فلا بد من البدء بأطروحات الرجل لمعرفة اين نموضع أو نجلِّس ما يُكتب ويُقال اليوم عن المجتمع المدني وهل ما تزال له علاقة باطروحات غرامشي، أم هي أمر آخر؟
I. هل الراسمالية شرط وجود مجتمع مدني؟
بمعزل عن كون الراسمالية، بمفهومها مسيرتها التاريخية وحتى واقعها الحالي، هي توليد التطور في أوروبا، الحداثة الأوروبية، وبمعزل عن الدور الأوروبي في أمرين هامين عالمياً هما:
· تواكب التطور الاقتصادي الاجتماعي في أوروبا، النهضة، مع حقبة زمنية لم يكن فيها مركزاً في العالم قادر على احتجاز تطورها، مما يعزز قولنا فيما يخص الطريق الراسمالي: “لا اوروبا بعد أوروبا “[5]
· استخدام أوروبا القوة العسكرية لقهر العالم وقطع طريق تطور الهند والصين، استكمالاً لقطع تطور الحضارة العربية الإسلامية إلى أنماط إنتاج أخرى وتشكيلات اجتماعية اقتصادية أخرى،
فإن الرأسمالية هي الحقبة التاريخية بمعناها المادي الحي/الاجتماعي الاقتصادي الثقافي والطبقي كذلك الذي تولدت فيه نظرية/ات المجتمع المدني، اي ان مدنية المجتمع في مرحلة الرأسمالية كانت نتاجاً ضرورياً لهيمنة نمط الإنتاج الراسمالي مما يجعل اية قراءة للمجتمع المدني، بالمفهوم الغرامشي خاصة، وحتى بمفاهيم سابقيه، تشترط وجود تشكيلة اجتماعية اقتصادية بهيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي مما يعني وجوب محاكمة أي طرح عن المجتمع المدني ضمن شروط وبمعايير هذه التشكيلة. بل تبين مسألة المجتمع المدني أن الرأسمالية قد قطعت شوطاً في تجليس المجتمع يقتضي هذا التجليس دوراً لقطاعات مجتمعية تساهم في تجليس التشكيلة نفسها، وإن كانت أحياناً معارضة لجوهر التشكيلة، وكونها معارضة، فهي ليست بالشرط والقطع نقيضة، وهذا محور أساسي في تكوين ما يسمى المجتمع المدني.
يثير هذا التقوُّل مسألة هامة وهي: بما أن المرحلة التاريخية للراسمالية قد ولَّدت المجتمع المدني، فهل الرأسمالية حاضنة طبيعية للمجتمع المدني بمعناه الإنساني العام، ام هي حاضنة لمجتمع مدني موظَّفاً/مدجَّناً لمصالحها، مجتمع مدني في حدود مدنية الرأسمالية؟ وهل تسير الراسمالية بشكل عفوي أم برؤية قصدية (غائية) تقودها اساساً السوق ومحركها الربح اللامحدود؟ ستجيب الأسطر التالية على بعض هذا. وهل هذا هو المجتمع المدني الذي تحدث عنه غرامشي أم أن هناك قراءات مختلفة ومن ثم توظيفات لغرامشي تنتهي إلى استخدام الأطروحات وقلبها راساً على عقب.
المجتمع المدني من توليدات نمط الإنتاج الراسمالي. تلاقح اللبرالية والراسمالية للحفاظ على التوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي كي يبقى خط الإنتاج مشتغلا دون تقطُّعات ويتحقق المعدل اللامحدود للربح. وهذا ما يفسر الشكل الديمقراطي في الغرب الرأسمالي، بمعنى توفير حد معين من الديمقراطية يغطي الديمقراطية السياسية سواء في تشكيل النقابات أو الأحزاب على أن تكون جميعاً ضمن هيمنة الدولة، التعددية السياسية والتعددية الاقتصادية كذلك “دعه يعمل دعه يمر”. وهما التعدديتين اللتين آلَتا إلى اشكال خطيرة مجتمعياً. فلم يعد للتعددية السياسية ذلك الدور المحرك والمقرر في السلطة السياسية. يمكن انتخاب اياً كان (مع أن النجاح لمن ينفق أكثر)، ولكن في التحليل الأخير بوسعه التصرف بمعزل عن الدستور وعن التفويض المجتمعي. نسترجع هنا ما قاله سيسل رودس حين قرر استعمار واستيطان روديسيا/زيمبابوي اليوم لتلافي ثورة عمالية في بريطانيا، وما فعله توني بلير بعده بزمن طويل حين شارك بحجم بلاده الوضيع إلى جانب بوش في تدمير العراق رغم المظاهرات الرافضة للحرب والعولمة وبروز منظمات غير حكومية فيها، ولكن كثيرا من نفقاتها كانت من “جيب” أكبر مضارب في التاريخ جورج شورش (سوروس) اليهودي البلغاري!.
إن التعددية السياسية الراسمالية هي مفرخة الفردانية أو تفريد المجتمع والناس إلى أفراد بشكل ذرِّي. لعل أوضح تعبير عن قصدية هذا التفريد والتذرير ما قالته تاتشر:”ليس هناك شيء اسمه المجتمع، هناك الفرد وربما الأسرة”. فالمآل النهائي للراسمالية هو تفكيك المجتمع إلى أفراد وحتى في حالة القطاعات الاجتماعية والأحزاب فهي مهيمن عليها بما يدجنها ضمن نظام توحيد السوق ليس فقط السوق القومية بل توحيد السوق العالمية. كما آلت التعددية والمنافسة الاقتصادية طالما هي مرتكزة على الملكية الخاصة و “حق” الكسب المفتوح وتوسيعها بلا حدود، آلت إلى الاحتكار وإلى هرم يزداد تدبُّب قمته باضطراد وتنحط وتتسع حياة قاعدته باضطراد ايضاً. تضخم الطبقات الشعبية وذوبان الوسطى فيها وتضاؤل حجم الطبقة الراسمالية إلى ما يقارب النخبة مع انفتاح السوق العالمية بلا حدود، وحدة السوق العالمية.
ولندخل عميقاً في موضوعنا يجدر التنويه بأن توليد المجتمع المدني ترافق مع الثورة الصناعية. ولكن، لماذا لم يكن تبلوره هكذا في حقبة الإقطاع حيث كانت هناك مراتبية (تراتبية) طبقية كذلك؟
قد يكمن التفسير في الفارق الجوهري بين المرحلتين. فإذا كانت السوق موجودة في كليهما وقبلهما، فإن مما تجاوزت به الرأسمالية مرحلة الإقطاع بشكل خاص هو العمل الاجتماعي، هو تجميع التفكك الفرداني للفلاحين في نطاق العمل المأجور حيث الصناعة حتى الأولية منها تحتاج إلى سلسلة بشرية لتجهيز الإنتاج مما خلق البنية الطبقية للطبقة العاملة. هنا، في المرحلة الراسمالية، يتجمع العمال من اجل الإنتاج ويتفرقوا بعدها كأفراد في بقية يومهم وحياتهم، وحين يتبلوروا في نقابة تتم عملية تدجينهم بالديمقراطية السياسية الشكلية التي تحافظ على بقاء خط الإنتاج مشتغلاً، ولا يقوى ساعدهم إلا ببلورة حركة عمالية. اي مرة أخرى يبقى السوق هو الهدف وهو نفسه مسرح خدمة الملكية الخاصة، اي تسخير العام في خدمة الفردي. هذا إلى جانب ظهور الدولة القومية/العصرية في أوروبا (بعد ويستفاليا في 1648 اي انها تزامنت مع صعود نمط الأنتاج الرأسمالي في القرن السادس عشر المديد الممتد من 1450 حتى 1640 وكذلك تزامنها مع الثورة البروتستانتية التي جاءت جميعها لخدمة عملية التراكم لرأسالمال ) الدولة في سلطة طبقة فرزها نمط الإنتاج الراسمالي حيث العامل الاقتصادي بجوهره الصناعي هو المقرر في التحليل الأخير. الدولة الإقطاعة الصغيرة سابقاً محكومة بعلاقة مباشرة ويومية مع مجتمعها المحلي في حين لم تكن تنحصر الإمبراطوريات في مجتمعها القومي وحده، بل كانت تتفرع عنها دولا انفصالية اخرى، كبيزنظة عن الرومانية والأندلس عن الأموية، المهم أنه في ظل الدولة العصرية الرأسمالية قد تطلَّب هذا الارتباط الحُكمي ترتيباً مدنياً للبلد. (إعادة هيكلة جذرية للمجتمع برمته)
إذا صح شرطنا هذا لمدنية المجتمع أن يكون للصناعة دور فاعل وأساسي، اي وجود تشكيلة اجتماعية اقتصادية رأسمالية حقيقية، فهل يمكن سحب أطروحة المجتمع المدني هذه على بلدان المحيط، راسمالية المحيط؟ هل عرضت أو تعرض هذه المجتمعات مناخ وشروط المجتمع المدني المشار إليها من غرامشي نفسه طالما يتم نسب قراءة “اصحاب المجتمع المدني هنا” إلى أطروحة الرجل. أم أن هذه التشكيلات الرأسمالية غير المكتملة، بل الانتقالية تولد مجتمعا مدنيا غير ناضج ولا مكتملا؟ إن كان حديثنا هذا مخطوئاً، فما معنى أن ما حسم الأمر في مصر وتونس حتى الآن هو الجيش؟ وما معنى أن هاتين الثورتين بقيتا في نطاق الثورة الأولى أي المطلب الديمقراطي، دون التوجه نحو الثورة الثانية، اي التحرر القومي من التبعية للمركز والتحرر من الارتباط باتفاقات التطبيع والكويز Qualified Industrial Zones-QIZ والغاز مع الكيان،والثورة الثالثة أي التنمية والاشتراكية ؟ اي لم تتولد الهيمنة النقيضة، الهيمنة الثانية هيمنة الطبقات الشعبية التي تدفع باتجاه مشروع ومطالب الحرية الاقتصادية والتنمية والاشتراكية.
ليس هنا مجال قراءة والفرز ما السبب الأساس في تواصل التخلف، هل هو الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة، ام هي الطبقات الحاكمة التي من مصلحتها استمرار التخلف[6]. ما يهمناهنا، أن مجتمعات لم تترسمل وتتصنع بما يكفي لا توفر شروط مدنية المجتمع بمفهوم غرامشي، فما معنى استخدام هذه النظرية دون توفر سياقها التاريخي، ناهيك عن عدم الإنشغال في توفير هذا السياق؟
المجتمع المدني
تظل مسألة المجتمع المدني حجر الزاوية في مساهمات غرامشي النظرية، وهي مسألة من الاتساع والمرونة بحيث يمكن للفكرين الراسمالي والاشتراكي تبنيها بطريقته الخاصة، بتفسيره الخاص. وقد يعود السبب في توفر فرصة لكلا النقيضين في استثمارها، ربما إلى أن غرامشي كان تجريبياً في كثير مما عرض وربما لأنه ركز على البنية الفوقية (انظر لاحقاً) وهذا ما وفر فرصاً لتعدد تفسيره ومن ثم استثمار هذه الخاصرة اللبرالية له. إن المجتمع الصناعي والدولة القومية الحديثة هما مجال تفكير وتحليل واستنباط أفكار غرامشي ولكن ليس ليشرحهما كمعلم مدرسي يكرر الدرس نفسه لعقود بل ليصل منهما إلى هيمنة الطبقة العاملة.
مرة أخرى، تركيزنا على غرامشي آتٍ من الشعور بوجود قراءات واستخدامات وتوظيفات تناقض ما ذهب هو نفسه إليه، هذا مع وجوب التأكيد أن غرامشي لم يكن بداية ولا نهاية مسألة المجتمع المدني كل فكر هو امتداد لفكرٍ ما، قبله بطريقة ما وبدرجة ما، لكن هذا لا يعني أن الفكرين متطابقين، أو لا خصوصية للثاني أو اللاحق،، لا بل اكثر، يمكن لللاحق ان يختلف بشكل جذري عن سابقه. إن ربط الجديد بالقديم ومحاولة نسبه إليه وحصره فيه هو إشكالية فكرية وربما سياسية مقصودة. لوحظ ذلك في قراءة كثيرين للعولمة قراءة تحاول تغطية جوهرها الرأسمالي الحالي بما هو سيطرة وهيمنة واستغلال آلَ مؤخراً إلى استعمار مباشر من المركز للمحيط.
ويتم الأمر نفسه تجاه المجتمع المدني الذي ينسب البعض وجوده إلى منتهى القِدم في محاولة لفكِّه عن مرحلة تبلوره الأساس أي مرحلة الرأسمالية الصناعية، كالقول بأن المجتمع المدني مسألة في منتهى القدم ولا ترتبط بالمجتمع الصناعي الحديث إلا بالمفاهيم الحديثة التي عولجت بها. يبدأ المجتمع المدني القديم منذ لحظة انفصاله عن الطبيعة العمياء والدخول معها في صراع تحقيق الوجود والبقاء وصولا إلى مختلف درجات الارتقاء الأخرى التي لا نهاية لها والتي يجسدها المجتمع المدني الحديث حيث ارتقى صراع الإنسان ونضاله إلى البحث عن الحرية للفرد والطبقة والمجتمع بمعنى أنه تجاوز القلق على مجرد الوجود والبقاء وأصبح، بل يجب أن يكون قد اصبح اكثر إنسانية.
يشتمل المجتمع المدني على علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة لتطور القوى الإنتاجية. إنه يشــتمل على مجمل الحياة التجارية و الصناعية لمرحلة معينة و بذلك يتجاوز المسألة السياسية. هذا ما يقوله ماركس في الإديولوجية الألمانية . المجتمع المدني هنا بنية تحتية ، بينما يظهر عند غرامشي كجزء من البنية الفوقية ، اي أجهزة الهيمنة في الدولة؛ الأجهزة الإديولوجية (الإعلام والتعليم- التربيـــة والمؤسسات القانونية والقانون والشرطة والجيش—الجهاز القمعي Coercive Apparatus)، والاقتصادية للدولة البورجوازية الحديثة. وهذا يُظهر بوضوح أن المجتمع المدني ليس قوة مضادة للدولة البرجوازية بل هو حالة استقلال نسبي بل بالأحرى (امتداد للدولة او المجتمع السياسي وهذا ما يسميه غرامشي بالدولة الممتدة Extended State)،بكلمات أخرى، يشكل المجتمع المدني في المجتمعات الرأسمالية المتطورة موقع امامي للمجتمع السياسي او الدولة) وإنما محكوم لا مباشرة، من المجتمع السياسي اي الدولة، التي بدورها توظفه لتسويد هيمنتها. بهذا المعنى،فإن الدولة الراسمالية تصل إلى مرحلة تتمكن فيها السلطة البرجوازية (المجتمع السياسي) من تطويع المجتمع المدني بحيث يتشرب ويتمثل ويُعيد إنتاج إيديولوجيتها وكأنها من عندياته. (سنبين ذلك في الهيمنة أدناه). لكن هذا كله هو نصف أو مقدمة ما رمى إليه غرامشي لأنه استهدف هذا من أجل تقويضه على يد الهيمنة الثورية لفكر الطبقة العاملة.
الحزب:
إلى جانب، بل وفي خدمة الطبقات الاجتماعية اشترطت التشكيلة الاجتماعية الاقتصاية للراسمالية تشكيل القوى السياسية التي تعبر عن تلك الطبقات، او هكذا يُفترض. لذا، تشكل الإحزاب والقوى السياسية إحدى أهم مكونات المجتمع المدني بما هي ذات تنظيم ودور سياسي اجتماعي واضحين. لقد ركز غرامشي كثيرا على الحزب وما اسماه “الأمير الجديد” لقيادة الطبقة العاملة في نضالها لتركيز وانتصار هيمنتها في مواجهة هيمنة البرجوازية. هنا علينا التنبه أن غرامشي تحدث عن هيمنتين متناقضتين (متصارعتين وهكذا يبقى المجتمع المدني ميدانا متنازع عليه من قبل الطبقات المتصارعة) وانحاز إلى واحدة هي هيمنة فكر الطبقة العاملة، وهذا بخلاف الفهم المسطَّح الذي يتحدث عن هيمنة واحدة هي هيمنة البرجوازية بهدف تجميلها وبقائها، هذا الفهم هو الذي يسحب المحرك الثوري من فكر غرامشي والأخطر يسحبه من واقع من يقعون ضحية هذا الفهم المخصي.
مسالة الحزب عند غرامشي فيما يخص المجتمع المدني محورية. واهم ما قاده إلى ذلك فشل مجالس العمال في الثورة البلشفية في قيادة نضال الطبقة العاملة قيادة سياسية طبقية، هذا قاد غرامشي إلى الاعتقاد بأن الحزب الشيوعي بالمعنى اللينيني ضرورياً. فالحزب هو الذي، برأي غرامشي، سيُوعِّي ويقود الطبقة العاملة لتحقيق هيمنتها. وهذا يستدعي نقاشاً لحالة الوطن العربي فيما يخص الأحزاب سواء الهجمة ضد الحزبية منذ الفترة الناصرية، وصولاً إلى إلغاء الأحزاب باعتماد الحزب الواحد ، حزب السلطة، وصولاً إلى الهجمة الأخيرة بعد الثورات والانتفاضات والثورة المضادة حيث يتم اعتبار الحزبية مسألة معيقة للثورة! وهذه حالة انحطاط في الوعي السياسي يليق حقيقة بمجتمع في الكثير من مستويات حياته ما زال غير راسمالي، فما بالك بما هو أرقى من الراسمالية!
إن هذا الخطاب الذي يأخذ المجتمع إلى ما قبل العصر الحديث، إنما يقود بشكل غير مباشر إلى رؤية المجتمع كجسم ضخم متاسق كتيم مصمَّت لا تناقض فيه ولا تفاوتاً، وهذا مخالف للديالكتيك الذي يفترض التناقض كمحرك للتطور. وهذا ما يطرح الانتفاضات الحالية على المحك بمعنى المطالبة بالديمقراطية بدون رؤية ولا مشروع ولا تأطير؟
يرى غرامشي أن: “… ليس الحزب الاشتراكي حزباً طائفيا وإنما منظمة طبقية، إنه ينظر إلى الدولة كسلطة طبقية للبرجوازية كنقيض له. إن دخوله في تنافس على السلطة مع البرجوازية مثابة انتحار له، لأنه بهذا يبتعد عن الدور التاريخي للبروليتاريا … ليس هدف الحزب الاشتراكي القبض على السلطة بل استبدالها، استبدال نظامها وإلغاء حزب الحكومة واستبدال المنافسة الحرة بتنظيم الإنتاج والتبادل[7]”
تشكل هذه الفقرة جوهر فهم غرامشي للمجتمع بمعنى أن المجتمع هو بنية طبقية في عصر راس المال، وأن السلطة السياسية محط صراع بين الطبقات ممثلة في الأحزاب السياسية لكل طبقة. ومن الواضح انه يرفض السقوط في الاحتواء البرجوازي للحزب الاشتراكي بحيث يتنافسان على وصول سلطة الدولة بمعزل عن طبيعة الدولة، لذا، لا يقبل بالإمساك بالسلطة بل بتغيير جوهر الدولة وصولا إلى الإنتاج والتبادل. اي ان الديمقراطية السياسية لا تكفي بل يجب أن تنتهي إلى تحقيق تنظيم الإنتاج والتبادل. وتنظيم الإنتاج يتضمن بلا مواربة حق العمال في الإنتاج بما هم المنتجين.
إلا أن فهم غرامشي المجتمعي أعمق وأكثر تعقيداً من هذا، فلم يكن فهمه المجتمعي اقتصادوياً بحتاً، بل يركز على التفاعل والاعتماد المتبادل بين البنيتين التحتية والفوقية ولا يرى أن الاقتصاد مجرد انعكاس لنمط الانتاج او أن الاقتصاد فضاء حراً يعدل نفسه ذاتيا بعيدا عن الواقع الموضوعي او ان القاعدة الاقتصادية مطابقة تماما للواقع الموضوعي، او أن الحقل الإيديولوجي مجرد آلية لإعطاء مشروعية لنمط الإنتاج المهيمن.
بالمقابل في تبرير بعض اليسار لدخول انتخابات الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة كان الشعار التقليدي، أن كل حزب يسعى لاستلام السلطة. هذا استبدال لطرح غرامشي وتماشي مع المفهوم الانقلابي والبرجوازي لتبادل السلطة على قاعدة شرعية السلطة البرجوازية فما بالك بسلطة تحت الاستعمار الاستيطاني؟ بكلمة أخرى، هذا أحد اشكال الفهم الأحادي للهيمنة، والذي يتجاهل جوهر موقف غرامشي من وجود وصراع هيمنتين.
تميل أطروحات غرامشي اجتماعيا ً إلى رفض الاعتماد الميكانيكي على الاقتصاد وهذا اساس تركيزه على البنية الفوقية إلى ما يقارب الانحياز، فهو يرى أنه خلال الأزمات في الواقع العملي لا بد من بروز دور الفكر والفلسفة للإجابة على الأسئلة المستعصية مع ضرورة تناولها بشكل جديد اعتماداً على المتغيرات التي أتت بها المرحلة الجديدة. والفكر والفلسفة هنا من مهام هذا الحزب. إن غرامشي منحاز اجتماعيا، اي في فهم وتغيير المجتمع إلى إعطاء دور كبير لبناء أسس الفكر الجماهيري ويؤكد على معركة الفكر والثقافة للطبقة العاملة وحتى للبرجوازية لأن صراع الأفكار سيرغمها على قراءة عقلانية للواقع. ومن هنا اهتمامه بالحزب والحزبية.
من هنا نلحظ اهتمام غرامشي بدور الوعي في تحريك الجماهير بمعنى أن حركتها بالوعي تصبح حركة مع رؤية وليست حركة داهمة مقودة بالمصالح في نطاقها الضيق. بكلمة أخرى، فإن الوعي هو الذي يعطي المصالح مضمونها ومعناها ووجوب الدفاع الواعي عنها. حينما نتحدث عن الوعي الجماهيري، فإننا نتحدث عن المجتمع العصري في دولة عصرية. وإذا كانت الشيوعية تعني إدارة الناس لحياتهم دون سيطرة سلطة طبقية، فإن هذا يجعل من الوعي أمراً أكثر أهمية وحساسية ومصيرية.
رغم النقد الشديد لنظرية مكيافيللي الفيلسوف السياسي الإيطالي، والذي يمكن تسميته أب الواقعية السياسية، فإنه هو أول من نادى بالتحرر من المَلَكية المطلقة وهيمنة الكنيسة أو بكلمة أخرى هو أوَّل من اسس للمجتمع المدني. ولا يخفى أن غرامشي قد تاثر به كثيراً. (7). وبالطبع، لا متسع في هذه الورقة لمتابعة التطويرات النظرية على هذه المسألة ما بين مكيافيللي وغرامشي وحتى ما بعد غرامشي نفسه. ما يهمنا هنا أن غرامشي اعتبر الحزب هو “الأمير العصري” في تطوير لنظرية مكيافيللي. لقد جادل بأن الحزب الثوري هو القوة التي ستمكِّن الطبقة العاملة من تطوير مثقفيها الراديكاليين، وهيمنة بديلة في المجتمع المدني. والسؤال هنا، اين يقع الحزب الثوري في مسألة البنيتين التحتية والفوقية؟ هل يمكن اختصارالإنسان في البنية التحتية؟ أونسبه إلى البنية الفوقية كمجرد جزء منها، أم أن الإنسان اساس البنيتين، وفي مناخات وظروف معينة يعطي الأولوية لهذه او تلك في مسيرة جدلية الحياة نفسها؟
لا تسعفنا الغاية من هذه الورقة لمناقشة الكثير من النقاش والجدل والنقد لما يتعلق بالبروليتاريا، ونحن نعلم أن غرامشي ولوكاتش عاشا قبيل النصف الثاني من القرن العشرين حين كانت أزمة الراسمالية قد قاربت قتلها. وفي حقيقة الأمر يتكامل غرامشي ولوكاتش وإن بديا مختلفين نسبياً. ففي حين يركز لوكاتش على الوعي الطبقي بالعموم، يركز غرامشي بشكل اكثر دقة على الحزب وعلى المثقفين ودورهم في التوعية والثورة كآلية لتعمم البروليتاريا هيمنتها على الطبقات الاجتماعية الأخرى مقابل هيمنة البرجوازية.ربما نجد في التطوير الذي اضافه بولنتزاس على الطبقة في المجتمع المدني بأنها لاتكون طبقة بدون الوعي السياسي الطبقي، نجد بعض اسس هذا في أطروحات غرامشي التي تركز على دور الإيديولوجيا للطبقة وخلق كل طبقة لمثقفيها.
يقول غرامشي “الكتلة البشرية لاتتميز ولاتصير مستقلة من تلقاء نفسها من دون أن تنظم نفسها بالمعنى الواسع، ولا تنظيم بدون مثقفين، أي بدون منظمين وبدون قادة[8]. لكن غرامشي لا يبتعد عن الديمقراطية الماركسية في خضم الصراع الاجتماعي. ففي حين يرى ان المجتمع السياسي اي الدولة البرجوازية تفرض هيمنتها بالقسر والسيطرة (وانتزاع الرضى من الطبقات المحكومة)، فإن البروليتاريا تفرض هيمنتها بالإقناع والثقافة على الطبقات الأخرى. وربما هنا وحسب نفهم ما معنى وأهمية الوعي للثوريين وليس اكتفائهم بالحماسة.
كما ينتهي غرامشي إلى ما انتهى إليه ماركس بأن الدولة لا بد ان تنتهي كلما ارتقى المجتمع المدني القائم على الوعي البشري او كما بشر ماركس ” حلول إدارة الأشياء محل إدارة الأشخاص”.
سؤالنا أو تساؤلنا في هذا الوضع : هل المنظمات غير الحكومية قابلة للتحول إلى بُنى حزبية تضطلع بمهمات الحزب التي هي مركزية في حياة أي مجتمع عصري؟ هل هي مؤهلة اساساً من حيث المنشأ والتمويل ومركبها الاجتماعي لهذا الدور؟ وإذا كانت عاجزة عن هذا اجتماعياً فماذا عن أهليتها للمشاركة في التحرر الوطني؟ (أنظري/ر لاحقاً)
الهيمنة
إن قِدم مسألة المجتمع المدني مهما كان فيها من صحة، يجب أن لا يطغى على التطور الأساس لهذه المسألة من حيث ما آلت إليه في حقبة الراسمالية الصناعية والأهم التطوير الأساسي الذي انجزه انطونيو غرامشي فيما يخص نقد ونقض الهيمنة في هذا المجتمع وصراع النقيضين، هيمنة الطبقة العاملة/الطبقات الشعبية في مقاومتها لهيمنة الطبقة الراسمالية. فكما ورث غرامشي مسألة المجتمع المدني عن سابقيه، لينين، وماركس وهيجل، فقد ورث عنهم كذلك آلية عمل هذه المسألة وطورها بشكل أفضل وهي الهيمنة.
يرى غرامشي أن الهيمنة (Hegemony) هي الوجه الأكثر مهارة وذكاء من السيطرة ( Domination )، بمعنى أن السيطرة تتم بالقمع واستخدام الدولة للقوة في تثبيت سلطتها وبالطبع مصالح الطبقة التي تمثلها، في حين أن الهيمنة هي آلية (تمزج ما بين الإكراه القسري والقوة الناعمة ولهذا فهي) اكثر مرونة، هي تشريب الناس لما تريدهم الدولة أن يسيروا بموجبه إلى درجة يعتقدون معها أن ما يقومون به وكأنه من إبداعهم الذاتي، إنه استدخال إيديولوجيا الدولة، وهذا يكفل للدولة بالطبع “سلاما” اجتماعياً وبالطبع طبقياً. على أن الوصول إلى المجتمع المدني بشكله العصري في الغرب الراسمالي وتحقيق الهيمنة بمفهوم الدولة المدنية البرجوازية مثابة عملية قامت او تقوم على دخول المرحلة الصناعية أو لنقل الحداثة بمفهومها العام وخاصة اعتماد العقل وتجاوز الكنيسة وقبول العلمانية. وإذا كان هذا فهم البرجوازية للهيمنة وللمجتمع المدني، فإن كثيرين يضلُّون بهذا الفهم أو التفسير المقصود، يضلون عن ما هدف إليه غرامشي بمفهوم الهيمنة. وهنا يكمن تبهيت وتمطيط مفهوم المجتمع المدني بمعنى أنه بدأ منذ تمكُّن الإنسان من تطويع جوانب من الطبيعة بفعل تحدي الوجود اي الانتقال من المشاعية البدائية إلى المجتمعات الاستيطانية التي ظهرت للعيان مع تطور تكنولوجيات الزراعة التي قادت بدورها لانتاج الفائض الجتماعي/الإقتصادي الذي مكن من ظهور الطبقات: المنتجة للفائض والمقتطعة له والمهيمنة علية (الكهنة، التجار والعسكر). إن هذا التمطيط لمفهوم المجتمع المدني إلى ذلك الغور التاريخي الممعن في القدم مثتبة تبهيت سياسي طبقي مقصود وغير علمي على الأقل بالهدف.
يرى غرامشي أن هناك هيمنيتن واحدة لكل طبقة رئيسية في المجتمع الذي يسيطر فيه نمط الإنتاج الراسمالي:
· هيمنة البرجوازية (الدولة) التي تحاول بسط إيديولوجيتها على الطبقات الشعبية
· وهيمنة الطبقة العاملة التي هي نقيض هيمنة البرجوازية وهدفها التغيير، كما اشرنا في بداية هذه المقالة.
وعليه، فإن الفهم المسطح والشكلي لغرامشي هو مفهوم تدجيني إستلابي يُفرغه من محتواه الطبقي والنضالي، ويحوله إلى مفكر مدجَّن. كما يعتمد أو يستخدم البرجوازيون الاهتمام الكبير لدى غرامشي بالمسألة الثقافية لتمرير تفسيرهم الخبيث هذا.
إن ما لم يرتق إليه غرامشي، وفي هذا سقطة مركزانية اوروبية، أو عدم التقاط التطورات، هو الهيمنة وبلدان المحيط. هذا لم يعالجه غرامشي حيث كان مأخوذاً باوربا الراسمالية. لكن أوروبا لم تكن في أوروبا بل كانت في كل العالم؟ هل كان يعتقد أن تحرر أوروبا اشتراكيا سينسحب على العالم كله؟ حتى لو حصل سيظل هذا تفكيرا مركزانيا اوروبيا. ولماذا لم يتنبه غرامشي إلى أن الدولة الراسمالية الغربية ذات المجتمع المدني هي الدولة الاستعمارية امبريالية التي وهي تذبح امم المستعمرات لم يرفض ذلك مجتمعها المدني!! هذا ما نقترح معالجته بعنوان الهيمنة الثالثة.
قد نجد المعنى الحقيقي للمقصود بالهيمنة لدى لينين، وهو الأمر الذي يتهرب منه محرفي/ مدجِّني مفهوم غرامشي للهيمنة. وهذا التهرب هو قطع مقصود لجذور تبلور مفهوم الهيمنة لدى غرامشي كي يصبح اغتياله أو احتلاله اسهل وأكثر إمكانية:
استخدم لينين مفهوم الهيمنة للإشارة إلى القيادة السياسية للطبقة العاملة في الثورة الديمقراطية. وهذا يوضح طبقية الهيمنة، هيمنة طبقة من خلال حزبها. وهو ما طوره غرامشي لاحقاً في تحليل دقيق ليوضح لماذا لم تحصل الثورة الاشتراكية الحتمية كما كان تنبأ بها الماركسيون الأُول في بواكير القرن العشرين. آنذاك كانت الراسمالية متجذرة بعمق. وقد أدرك أن الراسمالية تتحكم ليس فقط عبر العنف والقسر السياسي والاقتصادي، ولكن ايضاً الإيديولوجي، من خلال هيمنة الثقافة والتي بها تصبح قيم البرجوازية بديهة أو إحساس وشعور عام Common sense” بأنها قيم الجميع، هذا ما نسميه استدخال الهزيمة.
وهكذا فإن إجماعاً ثقافياً قد تطور إلى درجة أنه في الطبقة العاملة أصبح الجيد لديها هو الجيد لدى البرجوازية، وعليه تساعد على إبقاء الوضع الراهن وليس الثورة ضده. لا بد للطبقة العاملة من تطوير ثقافة خاصة بها تُطيح التصور الذي تمثله القيم البرجوازية والذي يبدو كأنه قيماً “عادية” أو “طبيعية” للمجتمع، ولكي تجذب الطبقات والمثقفين المقموعين لصالح هدف البروليتاريا.
تمسك لينين بأن الثقافة هي عامل مساعد للموضوعات السياسية، أما بالنسبة لغرامشي فالهيمنة الثقافية اساسية لإحراز السلطة ويجب إنجازها أولاً. من وجهة نظر غرامشي، فإن اية طبقة تطمح للسيطرة في الشروط العصرية لا بد أن تطمح لما هو أبعد من الطريق الضيق لمصالحها “الاقتصادية-المشتركة” ولكي تمارس قيادة ثقافية وأخلاقية، وأن تقوم بتحالفات ومساومات مع العديد من القوى.
لقد أسمى غرامشي هذا الاتحاد بين القوى الاجتماعية ب “الكتلة التاريخية”، مستعيراً المصطلح من جورج سوريل. وتشكل هذه الكتلة أساس الإجماع على نظام اجتماعي معين، والذي بدوره ينتج ويعيد إنتاج هيمنة الطبقة السائدة عبر سلسلة من المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والأفكار. وبهذا المعنى، فقد طور غرامشي نظرية ركزت على أهمية البنية الفوقية في كل من الحفاظ على وكسر علاقات البنية التحتية. وهنا لا بد من محاذرة فخّ الكتلة التاريخية بمعنى أن غرامشي لم يكن ليروج لها في ظل النظام الراسمالي بل طرحها ليشرح تكتيك البرجوازية، وعليه، فإن دفع تحليله إلى نهايته يجب أن يستدعي كتلة تاريخية بقيادة الطبقة العاملة. في هذا السياق لا يسعنا إلا ان نشير ان تطبيقات هذه الفكرة في ظل العولمة النيوليبيرالية تتجسد في تشكل الكتلة التاريخية للطبقة الراسمالية المتخطية للقوميات Transnational Capitalist Class بما في ذلك مؤسسات ومثقفو المجتمع المدني لخدمتها وذلك بهدف تدجين المجتمعات في المركز والمحيط وشبه المحيط لتسهيل سيرورات إعادة الهيكلة الاقتصادية واللبرلة السياسية والهندسة الاجتماعية للحيلولة دون اي مقاومة منظمة تنشأ من البنى القاعدية لهذه المجتمعات ضد مشروع العولمة النيوليبيرالي— لذلك ليس سرا أن غالبية دول المركز وبالتنسيق بينها وبين مؤسساتها وصناديقها تقوم بتمويل مؤسسات الأنجزة في التشكيلات الاجتماعية المختلفة والمتباينة في المنظومة الرأسمالية العالمية. على سبيل المثال تمويل الافكار والمشاريع العاملة في حقل “الديموقراطية وحقوق الإنسان”.
بهذا المعنى، فإن الحزب رافعة اساسية لهيمنة الطبقة التي أفرزته كي يمثلها، ولكن، أين تقع منظمات الأنجزة من هذا الأمر؟ أية هيمنة تسعى لنشرها اجتماعياً طالما هي ممولة من الخارج بالمال السياسي، ربما هناك استشناءات محدودة؟ ما مساهمتها وهي تنشر الثقافة الأميركية في الديمقراطية المخادعة، بعض حرية القول هنا، ومقابل حرية ذبح امم هناك. كيف تتجاوز القرار الرسمي من الغرب بالتعامل مع الصراع العربي الصهيوني من مدخل أن ما بيد الكيان هو للكيان؟ وبكلمة: هل هي جزء من المشروع الوطني التحرري، هل هي مشاركة وهل تمن بالصراع الطبقي للطبقات الشعبية ضد الكمبرادور، ام هي بتحصيل حاصل جزؤ من الثورة المضادة، أداة للهيمنة الثالثة، الهيمنة الخارجية؟ (أنظري/ر لاحقاً)
( *** )
يتبع
1] أشكر الصديق د. مفيد قسوم على ملاحظاته النافذة على هذا النص، ويبقى اي تقصير علمي وعقيدي هو مسؤوليتي الشخصية.
[2] See Mufid Qassoum, 2004. Glocal Dialectics in the Production and Reproduction of the Palestinian Space under the Various Phases of Globalizations. Uinversity of Illionis at Chicago. Unpublished Ph.D. Dissertation. [3] هذه إشارة إلى كتاب مشترك وُضع من قبل السيد سامي عدوان أحد المدرسين في هذه الجامعة مع صهيوني. يقف الكتاب على تساوي روايتنا كشعب طرد من وطنه مع رواية الكيان الصهيوني الإشكنازي كغاصب واستعمار استيطاني! إن أخطر السهام التي يوجهها بعض الفلسطينيين إلى قلب القضية هو إشعار العدو بتوازيه حقوقيا وحقا معنا. وكتاب مشترك من احد المحاضرين في جامعة بيت لحم /سامي عدوان، مع صهيوني لا يختلف عن فلسطيني يعيش في الكيبوتسات مع صهاينة، ويزعم أنه قومي عربي السيد أحمد اشقر. أنظر لهذا مقالة عادل سمارة في: كنعان النشرة الألكترونية ، السنة الحادية عشر ـ العدد 2556، أول أيار (مايو) 2011، الثورة والاختراق والتجسس (الحلقة الثانية)، البُعد الطبقي للثورة المضادة: قراءة طبقية في الاختراق والتجسس. [4] يعتبر غرامشي صاحب فكر سياسي مبدع داخل الحركة الماركسية. ويطلق على فكره اسم الغرامشية التي هي فلسفة البراكسيس (النشاط العملي والنقدي _ الممارسة الإنسانية والمحسوسة). وغرامشي يؤكد استقلالية البراكسيس إزاء الفلسفات الأخرى. إنها ممارسة ونظرية في آن معا ولهذا فإنها فلسفة سياسية. إنها التاريخ -الحي-قيد-التكون، وهي كذلك تصور للعالم يمكن استخلاصه من الآثار الماركسية الفريدة التي يعتبر غرامشي أنها تتكون من ثلاثة أقسام: الاقتصاد السياسي والعلم السياسي والفلسفة. وهو ينقب فيها عن المبادئ الموحدة في علاقات الإنسان بالمادة (التي هي نتيجة براكسيس سابق) عبر التاريخ الذي هو إنتاج ذاتي للإنسان. [5] درجت أدبيات التنمية على القول بأن “لا يابان بعد اليابان” من خلال توظيف الإحتكارات الخمس الواقعة تحت تصرف المركز وهي: المعرفة التكنولوجية: القوة العسكرية الكاسحة: راس المال التمويلي: الوصولية للمواد الخام: والهيمنة على الإعلام العالمي) بمعنى أن المركز لن يسمح لأي بلد بالنمو الراسمالي الفعلي بعد اليابان. وهذا صحيح ولكن ربما الأهم أن أوروبا الغربية التي رغم حروبها الداخلية الطويلة كانت تتطور بشكل متوازٍ مما يشير إلى أن من مقتضيات المركزانية الأوروبية احتجاز أي تطور لغير أوروبا. إشارتنا هنا لافتة إلى المركزانية الأوروبية التي كانت تتشارك تحديثاً رغم الحروب القومية الداخلية فيما بينها، وهذا يستدعي من العالم الثالث مركزانية خاصة به تقوم على وجوب فك الارتباط. [6] أنظر عادل سمارة مقالات الثورات والتجسس والاختراق، في نشرة كنعان الإلكترونية الأعداد 2552، 2556، 2558، 2562، موقع “كنعان: http://kanaanonline.org/ebulletin-ar/ [7] The Antonio Gramsci reader, selected writings 1916-1935. Edited by David Forgacs, the New York University Press, 2000, 40-41[8] – المصدر السابق – ص – 199. المصدر السابق – ص – 199.