Site-Logo
Site Navigation

حول أزمة الصهيونية

وآفاق الخطاب الفلسطيني تجاه المجتمع اليهودي في فلسطين


16. September 2008

يواف بار، حركة أبناءء البلد، فلسطين ترجمه عن الإنجليزية: قيس عبد الله، فيينا أعدت هذه الورقة كمساهمة في النقاش ضمن المعسكر المناهض للامبريالية حول آفاق العمل في البلدان الإمبريالية..


لكن الوضع في فلسطين مختلف جداً عما هو في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية. فمنذ بدء الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ نحو 130 عاماً، كان اليهود فيها جيباً صغيراً من المستوطنين في قلب الوطن العربي. هذا الاستيطان ليس توسعاً خارجياً لضرب من “أسرائيل رأسمالية – غربية” تخيلية، بل هو جوهر وجود إسرائيل. إن فلسطين بلد محتل مستعمر، حيث المركز الحقيقي للحياة السياسية هو النضال ضد الاحتلال. إن أي نضال تقدمي ضمن الجماعة اليهودية يجب أن يكون جزء من منظور التحرر الفلسطيني.

يختلف النضال الديموقراطي في فلسطين كقاعدة متقدمة للامبريالية، ومن عدة أوجه، عن المنظور العام للنضال الثوري في المراكز الرأسمالية. وعلى كل حال، فقد حاولت أن أكرس تحليلي بالتحديد للحقائق على الأرضية الفلسطينية، وأدع للحضور معالجتها نقدياً لتقرير أي الدروس يمكن استخلاصها لجبهات أخرى.

الجزء الأول: كيف تعمل المنظومة الصهيونية

الصهيونية والامبريالية
كتب الكثير عن شرور الصهيونية كحركة استيطانية، وعن إسرائيل كنظام عنصري، لكن دور الصهيونية في التسلط الامبريالي على الشرق العربي معروف ومفهوم أقل بكثير. مع ذلك، فإن الدور الرئيسي للصهيونية ليس استغلال الشعب الفلسطيني الذي يفضلون التخلص منه عن طريق التطهير العرقي المطرد، ولا بناء مجتمع يهودي في فلسطين (وبالتالي استغلال الطبقة العاملة اليهودية). إن الدور الرئيسي لإسرائيل هو كونها قاعدة عسكرية متقدمة متطورة في قلب الشرق العربي من أجل منع استقلال العرب ووحدتهم وبناء اقتصاد وطني ومجتمع ديموقراطي.

إن الطبيعة العسكرية للمشروع الإسرائيلي معمدة باتفاقيات استراتيجية عديدة بين إسرائيل والقوى الامبريالية، تضمن “التفوق الستراتيجي” لإسرائيل في المنطقة. والعصاب (الهيستيريا) الامبريالي الحالي ضد مشروع إيران النووي ينطوي على معنى واحد – التصميم الإمبريالي على احتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة مما يمكنها من استخدامه عند الحاجة. وفي كتابات ظهرت مؤخراً يتحدث قادة إسرائيليون بصراحة عن مدى اقترابهم من استخدام الأسلحة النووية في بعض صراعاتهم السابقة…

ولدورهم في حماية التسلط الامبريالي على هذه المنطقة الستراتيجية المهمة، تحظى النخبة العسكرية – الراسمالية الصهيونية بمجال عريض من الامتيازات الاقتصادية والسياسية هي جزء ضئيل من عائد الرأسماليين جراء إخضاع الأمة العربية وسلب مواردها الطبيعية والبشرية.

الاستيطان والطبقة

يحتاج الصهاينة، كي يتمكنوا من تشريد الشعب الفلسطيني واضطهاده، ومن إرهاب كل المنطقة عسكرياً، أفضل ما لدى الامبريالية من أسلحة، غير أنهم يحتاجون كذلك لجنود يخوضون حروبهم. وتستخدم دولة إسرائيل هذه الجماهير اليهودية التي نجحت في إغوائها بالمجيء إلى فلسطين، كقاعدتها الداعمة وكجنود مشاة لها في حروبها العدوانية الاستيطانية الجائرة. إنها بحاجة لأن تظل هذه الجماعة المهاجرة راضية، لتجنب هجرتها المعاكسة إلى مناطق آمن، ولضمان ولائها كقوة مقاتلة.

إن الخوف أحد الخلفيات الرئيسية لسيطرة الصهيونية الفائقة على اليهود في فلسطين، وبهذا المعنى، فإن الصهيونية هي المستفيد الرئيسي من معاداة السامية، وتشاركها القناعة بأن اليهود عاجزون عن الاندماج في المجتمعات التي يعيشون تحت ظهرانيها. إلى ذلك، تستفيد لدرجة ما من إرعاب اليهود في فلسطين من النتائج الممكنة لفقدان إسرائيل سيطرتها العسكرية. ومن أجل توفير البديل للفلسطينيين المشردين، تستقدم الحركة الصهيونية اليهود من كل أنحاء العالم. وفي عملية استعمار داخلي يجرد اليهود من البلاد العربية والعالم الثالث من ثقافاتهم وتركيباتهم الاجتماعية، والتي تصنفها الدولة على أنها “دونية”، ويسحق مجتمعهم لتوفير “مادة بشرية خام” عزلاء للتزييف والاستغلال الصهيونيين.

غير أن الأداة الرئيسية المستخدمة من قبل إسرائيل لإدامة ولاء الجماهير اليهودية هي في جعل أسلوب حياتهم اليومي معتمداً على نظام معقد من الامتيازات إزاء الفلسطينيين الأصليين. ويشمل نظام الامتيازات هذا كل تفاصيل الحياة اليومية في إسرائيل: الصحة والتعليم، الإسكان، الرفاه، القبول والترقية في العمل… باختصار، كل شيء. ويبذل جهد كبير لتوريط أكبر عدد ممكن من اليهود (من كل الطبقات) بصورة فعالة في سلب أراضي العرب؛ المحتلة عام ثمانية وأربعين، وفي الضفة الغربية والجولان السورية سواء بسواء.

لا يدع هذا النظام لقطاعات من الجماهيراليهودية التواقة لتحسين حياتها اليومية غير سبيل واحد: الكفاح من أجل تعزيز امتيازاتهم والنأي عن الجماهير العربية الأشد رزوحاً تحت الاضطهاد والاستغلال. وليس من قبيل الصدفة أن أكثر نضالات اليهود الشرقيين نجاحاً في الأعوام الأخيرة كانت حملة من أجل توزيع أكثر مساواة للأراضي العربية المسلوبة، منطلقة تحت شعار “هذه أرضي أنا أيضاً”.

ليس للبديل أن يأتي من ضمن المجتمع اليهودي

يولّد الاستغلال الرأسمالي في إسرائيل، كما في أي مكان آخر، تناقضاته وصراعه الطبقي. غير أن الاستقطاب الحاد في مجتمع خاضع للاستيطان يمنع التطور الطبيعي للصراع الطبقي إلى نزاع سياسي حول السلطة، فالعمال الفلسطينيون مهمشون عن طريق تحيز منهجي، والكثير منهم يعمل في قطاعات اقتصادية غير أو شبه رسمية حيث يكاد التنظيم الطبقي يستحيل. إن أفضل العمال تنظيماً وقدرة على المجابهة هم أولئك العاملون في القطاعات الأكثر حضوة، والمنقاة كلياً تقريباً. وكلما نما الصراع والتنظيم المحلي، أحبطه الهستدروت، الأداة الجبارة للحركة الصهيونية، المسؤولة عن ضمان توجه نضال نقابات العمال لصالح النظام الاستيطاني.

ليس ما يدعى “اليسار الإسرائيلي” يساراً إطلاقاً، وهو أحياناً ما يؤخذ على أنه يشمل حزب العمل الإسرائيلي، الذي كان الأداة المركزية للاستيطان الصهيوني، المسؤولة مباشرة عن التطهير العرقي لعام ثمانية وأربعين، والاحتلال عام سبعة وستين معاً. ولا يزال “العمل” ولهذا اليوم شريكاً كاملاً في جميع سياسات إسرائيل العدوانية والعنصرية، وشريكاً في أغلب تحالفات حكومتها. وعلى الصعيد الاقتصادي يرتبط حزب العمل الإسرائيلي وثيقاً بالقطاع الخاص الكبير شأن أشقائه التوائم من الجناح اليميني العلني، ويدعم السياسات النيوليبرالية كالخصخصة.

ليس ظل العمل في “اليسار” الصهيوني، حزب “ميريز” الصغير، والذي ينضوي حالياً ضمن المعارضة، سوى طيف أكثر اعتدالاً، ولا يتورع عن المشاركة في حكومات الاحتلال والحرب الصهيونية حين تسنح له الفرصة. هو يطالب باعتدال أكثر في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، غير أن نشاطه السياسي الرئيسي هو محاولة إشغال الفلسطينيين في مفاوضات افتراضية من أجل ابتزازهم للتنازل عن حق عودة اللاجئين، كي يصبحوا أكثر قبولاً لدى الرأي العام الإسرائيلي… ميريز أيضاً معروف جيداً باتكاله على النخبة الموسرة، التي قد تكون أقل عدوانية بقليل من الأجنحة الأخرى للصهيونية، من حيث أنها تجد مصالحها محمية جيداً في اي تسوية ممكنة.

إن هناك حركات مناهضة للحرب، كان أشهرها وأكثرها عدداً “السلام الآن”. وفي حين عبرت عن بعض النزوع الشعبي للارتياب بالقيادة العسكرية – السياسية وضغطت على الحكومة لتقليل عدوانيتها، فقد ظلت غالباً تحت الأجنحة السياسية للعمل وميريز. كان منطقها أن بوسع إسرائيل السماح ببعض التنازل من مركز القوة، وبهذا تنكر على الفلسطينيين حق العودة وتتمسك بالسيادة اليهودية.

لقد حاول الحزب الشيوعي الإسرائيلي ولفترة طويلة أن يبني يساراً إسرائيلياً وطنياً غير صهيوني. وقد ظنوا أن هذا اليسار قادر على التعاون مع التيار العام “لليسار” الصهيوني والتأثير فيه باتجاه السلام مع الفلسطينيين “الخارجيين” وتقليص التمييز ضد الفلسطينيين “الداخليين”. ولهذا الغرض حاولوا حصر الكفاح الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين ببرنامج (أجندة) حقوق مدنية، ومساواة وسلام. وبينما حاولوا شفاء بعض اعراض الصهيونية، فإنهم قبلوا قضيتها الرئيسية في إقامة دولة يهودية.

ادت هذه التجربة إلى ذروتها اللامجدية حين كانت أصوات الشيوعيين (والعرب الآخرين) في الكنيست حاسمة لتثبيت حكومة العمل برئاسة رابين إبان اتفاقية اوسلو. حتى حينها رفض العمل مشاركة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، أو أي حزب آخر يمثل الناخبين العرب في الائتلاف الحاكم، وبذلك يؤكد الصفة اليهودية الشاملة للدولة الصهيونية، ونزع الشرعية عن هؤلاء العرب الفلسطينيين الذين هم مواطنون رسميون في إسرائيل.

كان من أصداء الجذرية (الراديكالية) العالمية لستينات القرن الماضي أن تشكلت بضع حركات جذرية وسط الشباب اليهودي، معروفة أفضل باسم “ماتزبين”- البوصلة بالعبرية. ورغم بعض المواقف المبدأية المهمة ضد الاستيطان الإسرائيلي، والتصميم على الكفاح والتضحية لدى بعض المناضلين، فقد فشلت هذه المجاميع في الاندماج كمكوّن ذي بال في حركة التحرر الفلسطينية، حتى حين كانت في ذرى يساريتها الجذرية. وفي النهاية، جفت هذه المجاميع وانتهت داخل أسوار الغيتو اليهودي الرجعي.

الجزء الثاني: الصهيونية لم تعد تعمل

محدودية وتراجع التفوق العسكري الصهيوني

حيث أن عماد الصهيونية هو السيطرة العسكرية، وكجزء من التسلط الإمبريالي، فقد حلت أزمة الصهيونية مع ثبوت محدودية القدرة العسكرية لإسرائيل، وتفاقمت حين فقد لا توازن القوى سيماءه الراسخة. لقد كانت حرب عام سبعة وستين، واحتلال كامل فلسطين واراض عربية واسعة لحظة الذروة للتفوق العسكري الإسرائيلي. وقد جاءت الاستفاقة العربية سريعة: فخلال بضع سنوات اندلع تمرد المقاومة الفلسطينية، “حرب الاستنزاف” وحرب تشرين/ أكتوبر 1973 – حيث مست حاجة إسرائيل لجسر جوي أمريكي مباشر من أجل تفادي الاندحار. لكن البورجوازية الحاكمة في مصر، الجبهة العربية الرئيسية، قررت أن تراهن على تغير موازين القوى من أجل مصالحها الأنانية، بالقفز إلى العربة الأمريكية وعقد معاهدة كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل.

بالنسبة لإسرائيل كان “السلام” مع مصر مناسبة لمحاولة سحق المقاومة الفلسطينية بشن حرب على لبنان، استمرت بين عامي 1982 و2000. احتلت إسرائيل بيروت، ذبحت الالاف من الفلسطينيين، وفرضت حكومة متواطئين لفترة قصيرة. لكن المقاومة استمرت وسادت – وأثبتت أن القوة العسكرية المجردة قادرة على تدمير بلد واحتلاله، غير أنها عاجزة عن فرض نظامها السياسي الذاتي.

حولت الإنتفاضة الأولى (1987 – 1993) أجزاء من فلسطين المحتلة إلى أماكن عصية على الحكم. وقد أجبرت إسرائيل على عقد اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، واستقدام قيادتها المنفية من تونس لتكون شريكة في إقرار بعض الحكم الذاتي تحت الاحتلال. وقد جرى خداع قيادة منظمة التحرير كي تصدق أن إسرائيل مهتمة بالتخلي عن احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، فتخلت رسمياً عن المقاومة المسلحة، بينما استمرت إسرائيل في الزحف الاستيطاني والتطهير العرقي.

أدت خيبة الأمل بأوسلو إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. وبعد نضال بطولي دموي تمكن الفلسطينيون للمرة الأولى من إرغام إسرائيل على التنازل عن جزء ضئيل للفلسطينيين هو قطاع غزة، حيث أخلت إسرائيل المستوطنين والاحتلال العسكري المباشر عام 2005. مع ذلك، أخضعت إسرائيل بتواطؤ امبريالي ومصري، قطاع غزة لحصار قاسٍ، وحولته إلى سجن مفتوح، وإلى مشهد للمجازر اليومية. في هذه الأثناء فازت حركة المقاومة الإسلامية حماس بانتخابات عام 2006 للمجلس التشريعي الفلسطيني، وفي عام 2007 نجحت حماس في فرض سيادة فعالة على قطاع غزة، وفي عام 2008 نجحت في إرغام إسرائيل على قبول الهدنة المتبادلة.

حاولت إسرائيل في تموز عام 2006 استعادة ميزان القوى بإعادة مهاجمة لبنان. ولمدة ثلاثة وثلاثين يوماً واصل سلاحها الجوي قصف البنى التحتية المدنية في البلد متسببة في تطهير عرقي لسكان الجنوب، وتدمير أجزاء من بيروت. ولمدة ثلاثة وثلاثين يوماً خسرت النخبة من قواتها البرية وأفضل دباباتها تطوراً معركة إثر معركة بوجه مقاومة ميليشيا حزب الله. ولمدة ثلاثة وثلاثين يوماً أصابت مدفعية حزب الله وصواريخه شمال إسرائيل بالشلل. وقد أدى نصر لبنان المؤزر في تلك الحرب إلى تثبيت قائد حزب الله حسن نصر الله كأوسع قائد عربي شعبية، وحزب الله كالجهة الرئيسية في تقرير مستقبل لبنان.

أثناء ذلك، إذ كانت مكتسبات الصهاينة الوحيدة مزيداً من المعاناة والدماء، دعوا إلى تدخل أمريكي مباشر في العراق، لمنع أي تهديد حقيقي أو متخيل لاستخدام أموال النفط العربي في بناء كيان عربي وطني مستقل. غير أن غزو العراق تكشّف عن كونه حرباً إضافية فادحة، حتى للقوة العظمى. لقد سددت المقاومة العراقية ضربة قاصمة لقدرة الولايات المتحدة على قسر طريقها على الشعوب المضطهدة والمستغلة في أرجاء العالم.

وكما هو دأبهم أبداً، فقد انحصرت معالجة الصهاينة بمحاولة “تصحيح” أضرار الحرب الأخيرة بتهيئة الحرب التالية، وهم الآن يحاولون دفع الولايات المتحدة لخوض حرب كارثية ضد إيران الأوسع والقوى، مما قد يتكشف عن أشد مغامراتهم دموية وفداحة حتى الآن. ويبدو أن الولايات المتحدة، وبعد تجربتها الدموية في العراق، تقاوم الآن أخيراً إغراء الانجرار لتحريض إسرائيل على ضرب إيران.

الأزمة الداخلية للنظام الإسرائيلي

أن السبب الرئيسي للأزمة الداخلية التي تطبق على النظام الإسرائيلي، هو تخبطه في حروبه الدائمة خارجياً وداخلياً . فلسنوات عديدة لم تنجح حكومة إسرائيلية في قضاء فترتها كاملة، بينما الأجهزة المختلفة للحكومة في نزاع دائم. الفساد في كل مكان: اضطر رئيس إسرائيل الفخري للاستقالة تحت تهمة الاغتصاب؛ وزير ماليتها السابق مدان الآن بالسرقة؛ اضطر قائد الشرطة للاستقالة لسماحه للمجرمين المحليين بالتأثير على الشرطة؛ اضطر وزير حربها ورئيس اركان جيشها للاستقالة بسبب معالجتهما الرعناء للحرب على لبنان؛ ورئيس الوزراء أولمرت مرغم الآن على التنحي عن منصبه بعد اتهامات لا نهائية بالفساد.

لقد تبنت إسرائيل الليبرالية الجديدة والخصخصة بحماس أشد من أكثر الدول الغربية، وخربت حالة الرفاه والتكافل الاجتماعي التي اعتادت أن تشكل لحمة المجتمع اليهودي. وتُحكم مجموعة صغيرة من الصفوة (أوليغارك) الخارجية والداخلية قبضتها على الاقتصاد، والفجوة بين الفقراء، والكثير منهم أناس عاملون عاديون، وبين فاحشي الثراء في اتساع مطرد.

إن إسرائيل، كمجتمع مهاجرين، أكثر حساسية لشرور الرأسمالية. فمن وجهة النظر الصهيونية، تشكل البطالة والفقر بين اليهود تهديداً لجهدها الثابت في استجلاب مزيد من اليهود للعيش في فلسطين. وعلى الجانب الآخر للطيف الاجتماعي، تنجب الصناعة رفيعة التقنية نخبة مسلحة بثقافة العولمة تجد من الأسهل لها ترك إسرائيل والتموضع في مراكز السلطة الامبريالية. إن مؤشراً رئيسياً للأزمة يتمثل الآن في كون الهجرة من إسرائيل أكثر من الهجرة إليها.

أصداء الانتفاضة الثانية لدى المجتمع اليهودي

كانت الانتفاضة الأولى (1987 – 1993) بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وموجهة بصورة رئيسية برؤية قيادتها في إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين عام سبعة وستين، ولم تتسبب في أية إعادة اصطفاف في الشارع اليهودي، حيث اتفقت مع رؤية حركة السلام الإسرائيلية في أن تكون قوة اعتدال في جانب الحكومة الإسرائيلية. كان كل شيء ينحو باتجاه اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال وليس بديلاً له.

جاءت الانتفاضة الثانية (2000 – ؟) نتيجة النفض الفلسطيني لوهم “عملية سلام” أوسلو. لقد انلعت لحظة اعتقد الجانب الإسرائيلي، بضمنه الكثير ممن يدعى “اليسار الإسرائيلي”، أن حكومة العمل برئاسة باراك تقربت بكل ما تستطيع باتجاه الفلسطينيين. ولقد تحدت الانتفاضة الثانية مفاهيم الإسرائيليين حول النزاع لعدة أسباب:

· نهضت حماس والجهاد الإسلامي بدور رئيسي في قيادة الانتفاضة، ولم تكونا جزء من “عملية السلام” الموجهة من الامبريالية.

· تكبدت إسرائيل خسائر أكثر من عسكريين ومدنيين.

· للأيام العشرة الأولى انتفضت كذلك الأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين. وحتى بعد قمع نضالهم الجماهيري المباشر عن طريق القتل المنهجي للمتظاهرين، ظل واضحاً أين يقف فلسطينيو “الداخل”.

· صعدت إسرائيل من اضطهادها التخريبي للفلسطينيين.

كانت الاستجابة الأولية التقاء صاخباً حول الإجماع الصهيوني، مع العديد من نجوم “معسكر السلام” الإسرائيلي، يتهمون الفلسطينيين بالجحود في نهضة بهذا العنف لحظة صار السلام في المتناول. غير أن استجابة من نوع آخر برزت بعدها ، خرقت الطريق المسدود للمنظور التقليدي لعملية السلام.

خلال فترة وجيزة إثر اندلاع الانتفاضة الثانية، أسست بعض العناصر الدائرة في فلك الحزب الشيوعي، بالإضافة إلى يساريين مستقلي التفكير حركة “تعايش”، التي شددت على النضال المشترك لليهود والعرب ضد الاحتلال وضد التتمييز العنصري، وتجنبت وضع برنامج سياسي. كان اختيار اسم الحركة بحد ذاته، المفردة العربية لـ “العيش معاً”، قطيعة منشطة مع الطغيان السابق للعبرية وللرواية الاسرائيلية حتى في الدوائر اليسارية. ولقد نجحت تعايش في العام الأول للانتفاضة في تعبئة آلاف المناضلين اليهود للمشاركة في كفاح الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر. وكان لتجنب ما كان حتى ذلك الحين رؤية “طبيعية” لحل الدولتين إفساحاً في المجال لمشاركة الفعالة لعناصر أكثر جذرية. لقد كانت تعايش مضطرة تحت ضغط الشركاء في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، إضافة إلى لجنة مهجري الداخل الفلسطينيين لاتخاذ موقف واضح في قضية واحدة – حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وبعد بضع سنوات مثمرة، لم يكن النشاط بحد ذاته كافياً لإدامة تعايش كقوة رئيسية، وهي الآن مقتصرة على بضع مجاميع نشاط محلية.

إن المنظمين الرئيسيين لمشاركة اليهود في النضال الجماهيري اليومي ضد الاحتلال هم الآن “فوضويون ضد الجدار”، وهم يشاركون إلى جانب الفلسطينيين والمتطوعين العالميين في مظاهرات يومية ضد بناء إسرائيل لما يدعى “جدار الفصل” في الضفة الغربية، الجدار الذي يفصل الفلسطينيين عن أراضيهم وعن بعضهم من أجل تعزيز المستوطنات اليهودية. هذه الشراكة في الكفاح حولت الفوضويين إلى حملة اللواء لكل مناهضي الاحتلال، حيث يشارك في المظاهرات اناس كثيرون ذوو آراء مختلفة. مع ذلك، وفيما يخص المنظور السياسي، يبدو أن الوقوف “ضد كل الدول” في تل ابيب أسهل أحياناً من تشخيص التمييز العنصري الإسرائيلي كنظام شرير تجب مجابهته لأسباب ديموقراطية في غاية البساطة.

وحيث أن الخدمة الإجبارية مفروضة على كل اليهود (والدروز، وهم طائفة إسلامية) في فلسطين، فإن مقاومة الخدمة في الجيش عنصر دائم للنضال الديموقراطي. هنا ايضاً يتغير مركز النشاط. ففي السابق كان الاتجاه العام “للممانعين”** السياسيين أن يكونوا جنوداً جيدين في الجيش الإسرائيلي، كمدافعين عن “إسرائيل الشرعية”، وان يرفضوا انتقائياً سواء الخدمة في لبنان أو القيام بدور الشرطة في الضفة الغربية وغزة المحتلتين عام سبعة وستين. أما الآن فإن مركز الحركة هو رفض أي دور في الجيش الإسرائيلي، في إدراك لغياب أي سبيل للتمييز بين الدور “الدفاعي” المشروع والاحتلال. إن حركة الممانعين السياسية المفتوحة الآن على صلة وثيقة باتساع انقشاع الوهم، والتغرب إزاء مؤسسات الدولة التي تدفع الالاف من الشباب إلى المراوغة لتفادي الخدمة العسكرية دون رفضها علنياً.

إن إحدى سمات السيطرة الفكرية (الأيديولوجية) للصهيونية على المجتمع اليهودي هو أنكار وجود وتاريخ الشعب العربي في فلسطين، وعلى الخصوص إنكار النكبة – التطهير العرقي ضد مجمل سكان فلسطين تقريباً عام ثمانية وأربعين. لكن إصرار الفلسطينيين على حقوقهم، وخاصة الإحياء السنوي لذكرى النكبة بالتظاهر الجماهيري من أجل حق العودة، نجح في كسر هذه الجهالة المصلحية، إلى درجة أن مفردة نكبة واسعة الاستخدام الآن حتى في العبرية. ثم أن هناك عملاً منهجياً لنشطاء ديموقراطيين ضمن المجتمع اليهودي لرفع الوعي بالنكبة، أبعدها أهمية ومغزى عمل اتحاد “زوخروت” (مؤنث من التذكّر – ذكرى).

تحدٍ آخر يرقى إلى مستوى تعاون المناضلين اليهود مع الانتفاضة الفلسطينية قامت به تالي فهيمة التي عرضت نفسها كدرع بشري لإحباط محاولات الجيش الإسرائيلي المستمرة لقتل المناضلين الفلسطينيين. فقد اعتقلت عام 2004 واتهمت بـ”التعاون مع العدو”. وقد نجحت حملة نشطة للدفاع عنها في تعرية الطبيعة السياسية للاتهام، حتى اضطرت المحكمة إلى التسوية على اتهام أخف والسجن لعامين ونصف. لقد صار اسمها رمزاً للانتقام من النشطاء الديموقراطيين المناهضين للاحتلال وتحويلهم إلى ضحايا.

المثل الآخر لانزياح التوازن من اليسار الصهيوني الزائف إلى معارضة جذرية مؤيدة للفلسطينيين كانت الحركة المناهضة للحرب ضد الغزو الثاني للبنان (صيف عام 2006). فإذ كان العمل جزء من الحكومة، وقائد “جناحه اليساري” بيريز وزيراً لـ”الدفاع” الذي شن الحرب، كان الـ”اليسار” الصهيوني المنظم في تنسيق تام مع دعاية الحرب حتى يومها الأخير. وعلى الجانب الآخر، قاد اليسار العربي واليهودي في حيفا معارضة الحرب بالتظاهرات اليومية منذ اليوم الأول لاندلاعها، حتى عندما أخليت المدينة جزئياً بسبب الضربات الصاروخية. وفي مظاهرات جماهيرية عديدة مناهضة للحرب في تل أبيب رفعت الأعلام الفلسطينية، وكانت يقود الجمهور المختلط من عرب ويهود خليط من الشيوعيين والقوميين العرب والفوضويين والجنسيين المثليين من رجال ونساء… إلخ

الجزء الثالث: صنع البديل

الموقف الرسمي الفلسطيني
يقود الكفاح ضد الصهيونية ضحاياها الرئيسيون – الفلسطينيون- غير أن النصر يستوجب وحدة عربية مناهضة للامبريالية وتضامناً عالمياً إضافة إلى كسر الاحتكار الصهيوني للمجتمع اليهودي في فلسطين.

لقدطرح البرنامج التقليدي للحركة التحررية الفلسطينية في الدولة العلمانية الديموقراطية في فلسطين بديلاً إيجابياً وتقدمياً. وكان بعض اليهود نشطاء في منظمة التحرير الفلسطينية وقد تبوأوا مناصب مهمة. غير أن منظور قيادة فتح لمنظمة التحرير الفلسطينية سرعان ما تحول نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الآراضي المحتلة عام سبعة وستين (بحدود 20 % من فلسطين) عن طريق اتفاقية مع إسرائيل أثناء هيمنتها. وعليه تحول اهتمامها في المجتمع اليهودي نحو إقامة علاقات مع “حركة السلام” ضمن المعسكر الصهيوني كجسر نحو إقامة الدولة.

والآن، وفيما تتنافس حركة المقاومة الإسلامية حماس مع فتح على قيادة الكفاح الفلسطيني، فإنها تتعاون مع كل ضروب نشطاء السلام على أرض الواقع، غير أنه لا يزال عليها التوصل إلى تناول متماسك بخصوص المجتمع اليهودي.

أبناء البلد

تعلن حركة أبناء البلد، كحركة فلسطينية تقدمية تنشط في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي مبادئها الأساسية، أنها تمثل المصالح التاريخية لكل شعب فلسطين، وبضمنهما المصالح التاريخية لليهود في فلسطين، لتجنب دورهم كبارود لمدافع الحروب الإمبريالية والصهيونية.

ولما يزيد على العشرين عاماً تضم أبناء البلد رفاقاً من أصل يهودي، لكنها تركز على مهمتها الرئيسية في تنظيم جماهير عرب فلسطين للدفاع عن حقوقهم اليومية ضد العنصرية الصهيونية، ويقتصر تدخلها في النضال الديموقراطي في المجتمع اليهودي أو التنظيم ضمن الجماهير اليهودية على حالات متفرقة.

مؤتمر حيفا – حزيران عام 2008

تبنت اللجنة المركزية لأبناء البلد عام 2007 مبادرة رفع شعار الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين كإطار لتحقيق عودة اللاجئين الفلسطينيين وكحل للنزاع الدموي المستمر. ولقد تقرر توقيت المبادرة على ضوء الانهيار الجلي لـ”العملية السياسية” برعاية الامبريالية، وأزمة السيطرة الصهيونية والامبريالية، التي دفعت الفلسطينيين واليهود على السواء للتطلع إلى حلول أبعد غوراً.

ومن أجل فسح المجال واسعاً للناس من جميع المذاهب ومختلف المنظمات، حركات وأحزاباً، فإن الإطار الذي جرى تبنيه هو مؤتمر مفتوح من تنظيم لجنة تحضيرية مستقلة.

لقد نجح المؤتمر في دفع مناقشة البديل الديموقرواطي العلماني، وقد أمه الكثير من النشطاء من حركات فلسطينية مختلفة، أحزاباً ومنظمات غير حكومية، أكثرها من اراضي ثمانية وأربعين، ولكن من الضفة الغربية والشتات الفلسطيني كذلك. ولقد شكلت قائمة المتكلمين التي تزيد على الخمسين تظاهرة لدعم قضية المؤتمر. كان هناك حضور مؤثر جداً للناشطين اليهود كذلك، ربما كان أوسع مشاركة في حدث سياسي فلسطيني على الإطلاق (باستثناء المظاهرات الجماهيرية بالطبع حيث يأتي الجميع لكن دون تفاعل ذي بال). كان هناك أيضاً حضور بارز لحركات التضامن العالمية. وبالإجمال، فقد شارك ما بين الثلثمائة وأربعمائة شخص في الحلقات الدراسية المختلفة (ورش العمل) ، في نقاش حيوي حول جوانب مختلفة للمشكلة والكفاح والحل.

إن مؤتمر حيفا جزء من حركة أوسع لإعادة تقييم الستراتيجية الفلسطينية. لقد عقدت مؤتمارت أخرى من قبل في أوروبا، كما تعمل مجاميع مختلفة من أجل نفس الأهداف في الضفة الغربية وغزة ومخيمات اللاجئين في البلدان العربية المختلفة.

تصور المستقبل

حيث تمعن العنصرية الصهيونية، بدورها كقاعدة عسكرية متقدمة للامبريالية، في مزيد من الصراعات الدموية، وحيث تبدأ المقاومة العربية في كسر السيطرة الامبريالية، فليس لليهود في فلسطين من خيار آخر غير التطلع إلى مستقبل لهم لن يقوم على الحروب المستمرة بل على الاندماج في فلسطين مستقبلية ديموقراطية كجزء من الشرق العربي الديموقراطي.

ومن أجل أن نفرق اليهود في فلسطين عن الصهيونية، نحتاج إلى تقرب نشط لحركة التحرر الفلسطينية من الجماهير اليهودية، وإلى الدور النشط للثوريين من ضمن المجتمع اليهودي في النضال ضد الصهيونية والامبريالية. وبوسع هذا التقرب نزع فتيل القنبلة الصهيونية الموقوتة ومنع الصراع من الانحدار إلى مستنقع للذبح الطائفي، أو الانفجار في حرب نووية نهائية.

إن بديلاً اشتراكياً هو الاستمرار الطبيعي والسبيل الأفضل لتحقيق البديل الديموقراطي في فلسطين، كما هو الحال في كل حركات التحرر. إن نظاماً اشتراكياً هو الوحيد القادر على تعبئة كل الموارد الاقتصادية والبشرية في فلسطين للمهمة الهائلة في إعادة بناء حياة ملايين المعدمين من اللاجئين الفلسطيين العائدين، ومنع الفصل العنصري الاقتصادي (أبارتهايد) من الحلول محل الفصل العنصري العسكري الذي تطبقه الصهيونية الآن. إن نظاماً اشتراكياً هو الوحيد القادر باسلوب منهجي على تجريد اليهود في فلسطين من الامتيازات المكتسبة لا أخلاقياً، وبنفس الوقت تهيئة المناخ لدمجهم في فلسطين ديموقراطية مستقبلية من أجل خير المجتمع المتحرر بكامله.

ترجمة: قيس عبد الله

* الكاتب عضو المكتب السياسي لأبناء البلد، وهي حركة فلسطينية تنشط داخل فلسطين المحتلة عام 1948، وأحد الداعين إلى مؤتمر حيفا من أجل حق العودة والدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين.

** ترجمة غير رسمية للفظة Refusenik وهم اليهود السوفييت الذين حجبت عنهم سمة الخروج (الفيزا)، وقد أطلقت على اليهود الممنوعين من الهجرة إلى فلسطين، وتدعوهم الأدبيات الصهيونية أسرى صهيون.

Topic
Archive