هناك دجلٌ كبيرٌ يجري اليومَ باسم “كسْر الحصار عن الشعب الفلسطينيّ.” ويمارِس هذا الدجلَ فنّانون عرب، مستندين إلى أدلجةٍ تنظيريّةٍ يقدِّمها لهم صحافيّون عرب وموظّفون رسميّون في السلطة الفلسطينيّة التي لا سلطة لها إلاّ على شعبها. فلنَضعْ جانبًا كيف يدخل الفنّانون والمثقفون العرب إلى الضفة الغربيّة، أيْ بتأشيرةٍ وموافقةٍ إسرائيليّتين حكْمًا. ولننسَ لبرهةٍ أنّ الممثّلة التونسيّة هند صبري، التي دخلتْ مؤخّرًا إلى الضفّة للمشاركة في مهرجان “القصبة” من باب “كسر الحصار والتضامن مع الشعب الفلسطينيّ” كما قالت، كان يمْكن أن تمارس هذا التضامن بالاكتفاء بالمشاركة عبر أحد أفلامها، أو بالحضور صوتًا وصورةً (بالفيديو والتليفون) لا جسدًا؛ أو كان يمْكنها أن تتبرّعَ بجزءٍ من أرباحها إلى الفلسطينيين في غزّة أو في أيّ مكانٍ يعيش فيه الفلسطينيّون (فمن قال إنّ “التضامن” لا يكون إلاّ بالذهاب المباشر إلى … رام الله؟).
فلننسَ كلّ ذلك لبرهة. تريد صبري كسرَ الحصار عن فلسطين بالذهاب إلى هناك؟ حسنًا. فلتذهبْ إلى الضفّة كما فعلتْ، ولتقابلْ كما فعلتْ مَنْ أسمّيهم “سجناءَ الدرجة الأولى” (وعلى رأسهم محمود عبّاس)، ولتقرإِ الفاتحةَ على ضريح ياسر عرفات (ضحيّةِ أوهام السلام قبل أن يكون شهيدَ السمّ الإسرائيليّ)، وعلى ضريح الشاعر الكبير محمود درويش. ولكنْ… فلتحاولْ أيضًا زيارةَ غزّةَ، قبل ذلك أو بعده، لا فرق، أناصرتْ هند صبري هذه “الإمارةَ الإسلاميّة” أمْ لم تناصرْها، وسواءٌ سمح لها نظامُ مصر (حيث تقيم) بعبور حاجز رفح أو لم يسمحْ. وإلاّ فإنّ ما تفعله هو:
1) وقوفٌ إلى جانب السلطة الفلسطينيّة، لا إلى جانب فلسطين؛ وشتّانَ بين الاثنتيْن.
2) تنازلٌ واضحٌ أمام نجاح إسرائيل في قِسْمة الشعب الفلسطينيّ إلى “غزّاويّ” و”ضفّاويّ” أو “فتحاويّ” و”حمساويّ”. صحيح أنّ قيادات الشعب الفلسطينيّ منقسمةٌ منذ أعوام؛ بيْد أنّ من واجب العرب، وبخاصةٍ المثقفون والفنّانون، أن يسْهموا في تقريب الرؤى الشعبيّة والأخلاقيّة والثقافيّة العربيّة خلف فلسطين واحدةٍ، مقاوِمةٍ، حرّةٍ من الاحتلال والعنصريّة… بغضّ النظر عن نقدهم (المشروع والضروريّ) لتعصّب “حماس” ولممارساتها الانغلاقيّة المقيتة على الصعيد الثقافيّ والفنيّ داخل غزّة. وهذا يعني، بالمناسبة، أنّ زيارة غزّة ينبغي ألاّ تساوي، هي الأخرى، تقديمَ الولاء المطلق لسلطة “حماس.”
***
نعم، ثمة مثقفون (بل موظّفون) في رام الله، وظيفتُهم ممارسةُ الدجل، دفاعًا عن مناصبهم، التي لا وجودَ لها من دون السلطة الفلسطينيّة التي لا سلطة لها. وهم اليوم يروِّجون، يمينًا ويسارًا، وبمساعدةِ كتبةٍ مصريين بشكلٍ خاصّ، مقولةً منسوبةً إلى المرحوم فيصل الحسيني، وهي أنّ “زيارةَ السجين لا تعني تطبيعًا مع السجّان.” حسنًا! بيْد أنّ على هؤلاء المروّجين الاعترافَ، في هذه الحال، بأنّ سلطة عبّاس ليست سلطةً حرّة، بل سلطةٌ سجينةٌ… ولكنْ بخمسة نجوم. فالضفّة الغربيّة البانتوستانيّة محتلّة، وإنْ أدار شؤونَها اليوميّة سجّانون “درجة أولى،” هدفُهم الأولُ والأخيرُ، منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ضبطُ شعب الانتفاضة وقمعُ السجناء الآخرين من نزلاءِ “الدرجات الدنيا.” بل لم يتوانَ سجناءُ الدرجة الأولى أولئك عن تنظيف سمعة إسرائيل بموقفهم المخزي الأخير من تقرير غولدستون.
***
وختامًا فإنّ على الفنّانين والمثقفين العرب الذين يزورون الضفّة أن يفْصلوا بين السلطة من جهة، والشعبِ والقضيّة (أو “فكرة فلسطين” كما كان يسمّيها إدوارد سعيد) من جهةٍ أخرى. فعبّاس، المنتهيةُ ولايتُه، لا يمثّل، لا هو ولا بطانتُه، مثلما لا تمثّلُ “حماس” وفقهاؤها المزعومون، وحدهم، شعبَ فلسطين بأكمله، المكوّنَ من جماهير الضفّة والقطاع وأراضي 1948 والمَهاجر واللاجئين، الخاضعين كلّهم لدرجاتٍ متفاوتةٍ من الذلّ والاضطهاد والعنصريّة والحرمان من الوطن أو المواطنيّة. وعلى أولئك الفنّانين والمثقفين العرب، والتكرارُ لازمٌ، أن يحاولوا الذهاب إلى غزّة، كما فعل مناضلون أمميّون وعربٌ منذ شهور، وكما سيحاول أن يفعل مناضلون عربٌ وأمميّون في اليوم الأول من العام الجديد.
سماح إدريس بيروت