فكرة مقاطعة البضائع الصهيونية أو بعضها ليست جديدة، وهي قديمة بقدم الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية وغزة. حاول بعض الفلسطينيين مع بداية الاحتلال اتخاذ موقف عملي من التعامل التجاري والاقتصادي مع العدو المحتل، ودعوا إلى مقاطعة البضائع الصهيونية على اعتبار أنه لا يجوز دعم العدو بشراء بضائعه، وأيضا من أجل التماسك الأخلاقي الفلسطيني من حيث أن شراء بضاعة العدو تتناقض تماما مع فكرة التحرير. أذكر من هؤلاء الفلسطينيين في مدينة نابلس يسرى صلاح وفدوى طوقان رحمهما الله، وأذكر جيدا أن السيدة يسرى بقيت تقاطع البضائع الصهيونية ما أمكنها حتى انتقالها إلى جوار ربها في الثمانينات.
حقيقة أن هناك تقصيرا فلسطينيا واضحا وخطيرا في هذا الشأن، ومن غير المعقول أن هذه الفكرة لم تأخذ حيز التطبيق بعد مرور عشرات السنين على الاحتلال الصهيوني للضفة والقطاع، هو شيء يسئ لصورة الشعب الفلسطيني ولمجمل فكرة التحرير. علما أن المقاطعة التجارية تشكل خطوة أولى وأساسية من خطوات المقاومة، ولا تتطلب التضحية، ولا تعرض متبنيها لمساءلات أمنية.
مرحلة الثمانينات
حاول بعض الفلسطينيين إحياء فكرة المقاطعة هذه وذلك باستعمال أقمشة منسوجة جزئيا في الأرض المحتلة. وقد تم بالفعل شراء قطع قماش من مصنع مروان النابلسي بنابلس، لكن قام شخصان فقط بإعداد القماش للباس، وفشلت الفكرة. تجددت الفكرة مع بداية انتفاضة عام 1987، وأصبح هناك حملة شعبية واسعة للمقاطعة. تبنت الفصائل الفلسطينية هذه المرة الفكرة، وقررت العمل على تنفيذها.
بدأ تطبيق الفكرة في أغلب المدن الفلسطينية، وكانت مدينتا جنين ونابلس أكثر المدن التزاما، وتلتهما في ذلك مدينة طولكرم. نشط الشباب في هذه المدن في زيارة التجار، والتحريض ضد البضائع الصهيونية. لكن وقعت بعض الأخطاء والتي قدرت حينها أن بعضها كان مقصودا بهدف الإفشال. فمثلا كانت هناك تعليمات بألا تتم مصادرة البضائع من أي تاجر، وفقط يتم الطلب من التجار التوقف عن استيراد السلع الصهيونية، ولا مانع من بيع ما لديه من مخزون. كانت المسألة حساسة لأنه كان المفروض كسب مودة التجار وحبهم وتعاونهم، وإلا يتم إفراغ الفكرة من محتواها الشعبي. لكن للأسف بدأ بعض الشباب بمصادرة البضائع وحرقها أحيانا أمام وسائل الإعلام، أو أخذها إلى جهة مجهولة بهدف الاستعمال الشخصي والتوزيع على الأصدقاء والأحباب. بعض هؤلاء الشباب كان يتعمد الإساءة، ومن المؤسف أن فصائلهم لم تتعاون من أجل التحقيق معهم. هذا وقد بدأ بعضهم يحصل على رشى من تجار بخاصة في أسواق الخضار لغض الطرف عن السلع الزراعية الصهيونية، ومن صناع لغض الطرف عن التقليل من الكمية والنوعية. هذا ناهيك أن العديد من الناس الميسورين كانوا يرتحلون إلى المستوطنات الصهيونية لشراء السلع. لقد فشلت الفكرة.
تجدد محدود للفكرة
هناك تجدد محدود للفكرة الآن تقوده السلطة الفسطينية في رام الله، من حيث أن هناك دعوات لمقاطعة إنتاج المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية. طبعا هذا تجدد خجول جدا، ولا أظن أنه سيؤدي إلى أي نتيجة إيجابية على الساحة الفلسطينية. ببساطة، يمكن للمستوطنين تغيير الدمغة على المنتج ليصبح مصنوعا في نتانيا بدل بركان. ثم إن اقتصاد المستوطنات مقارنة بالاقتصاد الإسرائيلي ككل يشكل نسبة بسيطة لا تأثير لها في النهاية على حركة البضائع بين الضفة وإسرائيل. وقد لاحظت أن بعض النشطاء الذين يدعمون فكرة السلطة لمقاطعة بضائع المستوطنات يدعون إلى مقاطعة مختلف البضائع الإسرائيلية شفويا في حين أن الملصقات التي يوزعونها تدعو فقط إلى مقاطعة بضائع المستوطنات. وهم يبررون ذلك بأن السلطة لا تريد الدخول في عملية التحريض ضد البضائع الصهيونية عموما.
وقد ذكر لي بعض المواطنين الذين استمعوا لبعض قادة مقاطعة بضائع المستوطنات إنهم وجدوا هؤلاء القادة في سوق استيطاني يشترون بضائع المستوطنات بعد درس المقاطعة. لا القائد أمينا ولا المستمع.
لماذا المقاطعة؟
مقاطعة البضائع الصهيونية والتي هي من إنتاج عدو يحتل الأرض ويشرد الشعب ويقتل الناس ويعذبهم ويزجهم بالسجون عبارة عن التزام وطني، ويعبر بوضوح عن مدى الانتماء الوطني. إنه من العار أن يستهلك شخص بضاعة عدوه إلا إذا أجبر على ذلك، ومن الترهل الوطني في الفكر والممارسة أن يقوم شعب بشراء منتجات عدوه وهو يئن من ممارسات هذا العدو صباحا ومساء وكل يوم وساعة.
المقاطعة ليست لأن بضاعة العدو ذات نوعية سيئة، وليست لأن إنتاجنا أرقى وأفضل، ولكن لأن المصلحة الوطنية تتطلب ذلك، ولأن شراء منتجات العدو عبارة عن دعم لهذا العدو وجيشه ومخابراته، وهو في النهاية تقوية لعدو على أنفسنا وتمكينه منا ومن وطننا بالمزيد. الالتزام الوطني والانتماء للوطن والشعب يفرضان على الشخص المقاطعة، والمقاطعة عبارة عن مقياس مهم لمدى هذا الالتزام وهذا الانتماء إنها مسألة مبدأ.
ثم إن المقاطعة تخدم الإنتاج الوطني وتشجعه. نحن بحاجة ماسة لتشجيع المنتجين الفلسطينيين من أجل الاعتماد على الذات ما أمكن والتحرر من نير المساعدات الخارجية والتسول، ومن أجل تشغيل عمالنا واستصلاح أراضينا وزراعتها، ورفع مستوى إنتاجنا الذي يساهم في النهاية في الميزانية العامة من خلال الضرائب والرسوم المختلفة. الاعتماد على الذات فيه العزة والكرامة والقرار المستقل، أما التسول ففيه الذل والاستكانة والاستسلام وضياع الأرض والعرض.
يقول الذي يصر على الهزيمة والتبعية إن إنتاجنا في النهاية يعتمد على استيراد المواد الخام من إسرائيل فلماذا نُتعب أنفسنا ونقاطع، رجوعنا في النهاية إلى إسرائيل؟ نحن نحاول أن ننتج بقدر الإمكان. إذا كانت القيمة المضافة من قبلنا للسلعة 10% فهذا جيد، وإذا ارتفعنا بها إلى 20% فهذا أفضل، وهكذا. إئما يجب أن نحاول، والخاسر هو الذي يريد أن يفشل قبل المحاولة.
مستويات المقاطعة
قد يقول أحدهم إن هناك سلعا نستوردها من العدو ولا بديل لها، ولا مجال أمامنا إلا أن نستوردها. هنا أقدم التصنيف التالي:
1- هناك بضائع صهيونية لها بديل فلسطيني، ويجب أن يلتزم الشعب بإنتاج أبنائه مثل العديد من أصناف الخضروات والفواكه وأصناف المنظفات والورق الصحي والشوكولاتة والبسكويت والعصائر.
2- هناك بضائع صهيونية لا نحتاجها إطلاقا، وعدم استيرادها لا يؤثر على سير حياتنا بتاتا مثل عصير البرتقال (التبوزينا) والبوظة ورب البندورة المبهر (الكاتشاب).
3- هناك بضائع حيوية نستوردها من العدو أو عن طريقه مثل السكر والشاي والمحروقات. العدو نفسه يستوردها ولا ينتجها. هذه بضائع لا مفر أمامنا إلا أن نشتريها، لكن الأفضل استيرادها من تجار أردنيين أو مصريين إن أمكن.
4- هناك بضائع استراتيجية لا نستطيع إلا أن نستوردها مثل الإسمنت. والأفضل أن نشتري مثل هذه السلع من تجار عرب إن أمكن.
أي أن مسألة الاستيراد تخضع لمعايير وطنية ومعايير الحاجة الاستراتيجية، ولا تخضع لثقافة الاستهلاك أو نوعية السلعة أو فيما إذا كانت لذيذة أم لا. لا يوجد لدي أرقام دقيقة الآن حول حجم الاستيراد من العدو، لكننا نستورد تقريبا ما قيمته 6 مليارات دولار سنويا، ونحن ثاني مستورد من الصهاينة في العالم بعد الولايات المتحدة.
ظاهرة التمر
هل لا حظ أحدكم أن الشعب يقبل على شراء التمر الإسرائيلي في رمضان، وذلك من أجل يكون الفطور مباركا ووفقا للسنة النبوية. نقوم بدعم المزارع الصهيوني الذي سلب أرضنا في أغوار الأردن من أجل أن ندخل الجنة.
وربما نلاحظ أيضا أن الكثير من الناس يقدمون حبة التمر الإسرائيلية في دور العزاء وذلك لمساعدة ميتهم على تجنب عذاب القبر أو التخفيف منه.
إذا اشترى الناس التمر الريحاوي والغزاوي فإنهم سيكونون أقرب إلى الجنة وأبعد قليلا عن عذاب يرونه في القبر.
إنتاج لذيذ
من ميوعة الانتماء الوطني أن تسمع شخصا يقول إنه يشتري السلعة الصهيونية لأنها ألذ من السلعة الفلسطينية. هذه ثقافة انهزام وتخلف وأمعاء. وهذا ناجم عن العجز الثقافي الذي نعاني منه على مستوى منظمة التحرير والفصائل والجامعات والمدارس، وعلى مختلف مستويات حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
الثورة الثقافية
العمل على إحداث ثورة ثقافية فلسطينية يمكن أن يكون أفضل سياسة تقوم بها السلطة الفلسطينية. لقد فشلنا في أمور كثيرة جدا إلى أن وصلنا إلى قرار هزيل وهو مقاطعة منتجات المستوطنات، فهل تقلص النضال الفلسطيني إلى هذه الدرجة؟ نعم لقد تقلص، وكل المحاولات لعدم استثارة العدو والولايات المتحدة لن تقربنا شبرا واحدا من التحرر وحق تقرير المصير. ما نقوم به الآن من مختلف النشاطات يساهم مباشرة في تصفية القضية الفلسطينية، وربما أيضا في تهجر الشعب الفلسطيني. المسألة أكبر وأكثر من المستوطنات، وهي تمس وعي شعب بأكمله وانتمائه والتزامه بقضاياه الوطنية، وبإعادة ترتيبث ثقافته وصفوفه ليكون على قدر التحدي.