لكنني، وبعد أن غادر الرجل، اكتشفت أن جملته المدهشة كانت أكمل وأكثف صياغة ممكنة للسياسة الفلسطينية الرسمية الراهنة. وبما أنها كذلك، فلا بد أن الرجل سمع هذه الجملة من أوساط حكومة الدكتور فياض، فهو قريب منها بما يكفي لكي يتسقط الأقوال السائدة في أوساطها. أي لا بد أن هذه الجملة واحدة من الجمل المركزية في أوساط هذه الحكومة.
(لم نعد حركة تحرر)! إنه اختصار لموقف السلطة والحكومة، وليس اختصارا للوضع الفلسطيني. فما زلنا، كفلسطينيين في الضفة وغزة، في مرحلة تحرر وطني، ونناضل من أجل إنهاء الاحتلال، لكن القيادة السياسية الفلسطينية كفت عن أن ترى في نفسها حركة تحرر، وكفت التصرف كحركة تحرر وطني.
بناء على هذا يمكن فهم القسم الثاني من الجملة: (نحن في مرحلة استقلال). فهو وضع ليحل محل (حركة التحرر). لقد انتهى زمن حركة التحرر، وحل محله زمن الاستقلال، الذي هو زمن مختلف، هنا، عن زمن حركة التحرر وضروراته. فحركة التحرر تقتضي، أولا، الجبهة الوطنية، أو الوحدة الوطنية كما نسميها. ذلك أن الكل متضرر من الاحتلال، ويرغب في إنهائه. لكن مرحلة الاستقلال، بالمعنى الذي يعطى لها هنا، لا تقتضي الوحدة الوطنية، بل قد تفترض المواجهة بين قوى الشعب، كما هو حاصل الآن في الواقع. مرحلة التحرر تقتضي التوحد، أما مرحلة الاستقلال فقد تقتضي السجون والمعتقلات، وقد تقتضي طرازا من الحرب الأهلية أيضا.
التحرر الوطني يقتضي، كذلك، تعبئة الشعب في مواجهة المحتلين، لكن مرحله الاستقلال المفترضة هنا لا تقتضي الاشتباك مع المحتلين. إنها في الحقيقة شغل على (بناء المؤسسات) من دون التعرض للاحتلال، أو مواجهته. أي أننا هنا مع سياسة الدكتور فياض، حيث يصبح بناء مؤسسات الدولة- من أجل الاستقلال!- منفصلا تماما عن الاحتلال. فهو واجب بيتي لا علاقة له بالاحتلال، ولا يتم في مواجهته، بل يتم من خلال نسيانه. وما دام الأمر لا يتعلق بالاحتلال ومواجهته، فنحن بالفعل لسنا في مرحلة تحرر وطني. فألف باء التحرر الوطني هو الاشتباك مع المحتل، أولا وأخيرا.
عليه، فالقسم الثاني من الجملة يعرض جوهر سياسة الحكومة. أما القسم الأول فهو نتيجة منطقية لهذه السياسة. كما أنه نابع من سياسة الرئيس عباس، الذي صرح مرة انه لا يريد حتى أن يرمى وردة على الإسرائيليين!
والحق أن الرأي العام العالمي عموما فهم هذا تماما. فهو كف عن اعتبار السلطة والحكومة حركة تحرر وطني، كما كان يعتبر منظمة التحرير أيام عزها، أي أيام كانت حركة تحرر. صحيح أنه يتحرك لفك حصار غزة، لكن ليس في سياق علاقة ذلك بالسلطة والحكومة. بل إن هذا الرأي العام يكاد يتلمس ضجر السلطة والحكومة من التضامن والمتضامنين. السلطة لم تعد تهتم بأساطيل الحرية كما كان الأمر أيام عرفات، أيام (سفن العودة). كما أنها لا تريد حتى للشعب أن يتحرك. بالعكس إن أشد ما تخشاه هو أن يتحرك الشعب. ووظيفة قوى أمنها أن هي أن تمنع هذا التحرك. فقد انتهى زمن التحرر، وحل زمن الاستقلال، أي زمن بناء المؤسسات (؟!) ومن خلال نسيان الاحتلال.
لم تعد الحكومة تمثل حركة تحرر.
لم تعد السلطة تمثل حركة تحرر.
لم تعد منظمة التحرير، الجسم الهلامي الواسع الذي يغطي الثنتين ويغطي سياستهما، حركة تحرر.
وهذا هو التطور الحاسم في حياتنا السياسية. هذا هو جوهر التناقض الذي نحياه الآن. فالشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، لكن حركته السياسية لم تعدد حركة تحرر. كما حركة حماس ليست قادرة، بسبب أيديولوجيتها، على أن تمسك بمهمة التحرر التي ألقيت على الأرض. أي ليست قادرة على أن تقود تتحول إلى حركة تحرر، وأن تقود حركة تحرر، وأن تلهم التضامن العالمي وتجذبه. لذا فالناس الذين يذهبون للتضامن مع غزة يتجنبون ربط أنفسهم بحماس. فهم يكافحون فقط من أجل فك الحصار الظالم عن غزة. وهذا عكس ما كان يحصل مع منظمة التحرير. فالمنظمة كانت هي فلسطين، وكانت هي حركة تحررها.
إذن، في الضفة ثمة شعب تحت الاحتلال، لكن سياسيا لا يوجد حركة تحرر، توجد حركة استقلال، أي يوجد (ورشة!) لبناء مؤسسات وكأن الاحتلال غير موجود. وفي غزة ثمة شعب تحت الحصار والاحتلال، وتوجد حركة تضامن دولي هائلة، لكن لا يوجد حركة تحرر. توجد حركة، هي حركة حماس، لا تستطيع أن تقنع الناس كفاية أنها حركة تحرر.
بذا، يمكن للمرء أن يقترح، لكي يتطابق الوضع، أن نغير اسم منظمة التحرير الفلسطينية. إذ لا داعي لكلمة (تحرير) هنا. فقد انتهى زمن التحرير والتحرر. يمكن تسميتها (منظمة الاستقلال الفلسطيني). أما حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) فلا بد أن تصير: حركة الاستقلال الفلسطيني.
لكن يمكن لنا أن نتغافل عن الاسم في كل حال، رغم انه لم يعد يعبر عن الحال. فحزب جبهة التحرير الجزائرية ما زال يحمل اسم التحرير حتى الآن، رغم أن مهمة أنجزت من خمسين سنة…