إنه الذهول، وليس من وصفٍ أبلغَ تعبيرًا. كنّا نصرخ كي نَسْمعَ أنفسَنا لا ليَسْمعَنا الآخرون، لنُقْنعَ أنفسَنا بأنّ لنا صوتًا، وبأننا ـ لبنانيين وعربًا ـ قادرون على كسر إسرائيل وتمريغِ أنفها في وحولنا، ولو مرةً في حياتنا.في مثل هذه الأيّام لعشر سنواتٍ خَلَتْ ذهبتُ مع عائلتي وبعضِ الرفاق إلى الجنوب.
لم نكن ندري ما سيحدث في اللحظة التالية. كنا نعيش فرحةً مؤجّلةً منذ عام 1978 حين احتلّت إسرائيلُ جنوبَ لبنان للمرّة الأولى، بل فرحاتٍ مؤجّلاتٍ منذ أعوام 1967 و1956 و1948. قبل 25 أيّار 2000 كنّا على شفير مرحلةٍ نردِّد فيها مع عشرات آلاف الشكّاكين أنّ العرب جماعةُ لغوٍ فارغ، “طكّاكو حَنَكٍ،” عاجزون عن فعل أيِّ شيء، راضون بالضيم، وأنّ إسرائيل لا تُقهر. ولذا كان اندحارُ العدوّ وعملائه ذلك اليومَ من أيّار أكبرَ من أن نستطيعَ استيعابَه، حدثًا يفيضُ عنّا، مع أننا كنّا من صُنّاعه المباشرين أو غير المباشرين. فجأةً، تحوّلتْ مقالاتُنا وقصائدُنا وأغانينا ولوحاتُنا إلى حقيقةٍ نراها ونَلْمسُها ونَشمُّها في جحافلِ العائدين. كنّا نعود إلى الجنوب “منتصبي القامةِ نمشي،” على أكتافنا نعوشُ رفاقنا: سناء محيدلي، ونزيه قبرصلي، وجمال ساطي، ويسار مروّة، ومريم فخر الدين، ومهدي مكّاوي، ولولاّ عبّود، وبلال فحص، وراغب حرب، ومئاتِ الشهداء اللبنانيين والفلسطينيين والعرب والأمميين الذين سقطوا على امتداد عقودٍ عدّةٍ دفاعًا عن حقّنا في الحريّة والاستقلال. فجأةً، بتنا نُحسّ أنّ الموتَ هو فعلاً “طريقٌ للحياة.” وكان حسن نصرالله، السيّدُ المعمّمُ الذي لم نؤْمن كثيرًا أو قليلاً بعقيدته السماويّة، المفتاحَ الذي أدخلنا ملكوتَ أرضنا الحرّة.
* * *
على أنه كانت تراودنا ذلك اليومَ، بين الفينة والفينة، مشاعرُ خوفٍ عميقة. ترى، ماذا بعد هذا النصر المؤزَّر؟ أيُعقل أن “يَسمح” لنا أعداؤنا بالنصر طويلاً؟ متى سيتحوّل فرحُنا بكاءً وندبًا؟ متى سينفجر نصرُنا من بين أيدينا؟ هل نحن قادرون على تحمّل النصر أولاً، وعلى حمايته ثانيًا؟ لقد أَدْمنّا الهزيمةَ، حتى بدا النصرُ وهمًا أو محكومًا بأن يكون قصيرًا، كليْلةِ حبٍّ عابرة: نَنْدم عليها ما إنْ ننتهي منها. بل خُيّل إلى بعضنا أنّ النصرَ الذي حقّقناه ذلك اليومَ لم يكن إلا مؤامرةً دوليّةً مدبّرةً لهزيمةٍ لن تقوم لنا بعدَها قائمة!لم تكن مشاعرُ الخوف من الهزيمة أو “المؤامرة” بلا مقدِّماتٍ ثقافيّة. فبعد هزيمة 67 انهال عددٌ من المثقّفين العرب البارزين على العرب بالمعاول. ولم تكن هذه المعاولُ لتُصيبَ عبدَ الناصر وعبدَ الحكيم عامر وحدهما، بل طاولت المجتمعَ العربيَّ، و”العقلَ العربيّ،” والفكرَ “الغيبيّ،” واللغةَ العربيّةَ “السقيمة،” و”العنتريّاتِ ]العربيّةَ] التي ما قَتلتْ ذبابة” (قبّاني). عشراتُ المثقفين ردّوا أسبابَ الهزيمة إلى بنية العائلة والعشيرة والدين، الكامنةِ ـ كما زعموا ـ في صميم الذهنيّة العربيّة. هكذا جاء أيّارُ 2000 لا ليكون ردًّا على حزيران 67 وما سبقه من هزائم فحسب، بل ليكون صفعةً كذلك لكلّ مثقفي “الجَلْد الذاتيّ” على امتداد عقود. فمع نصر 2000، أيقن كثيرون منا، عقليًّا وثقافيًّا ونفسيًّا، أنّ العرب ليسوا محكومين بالهزيمة والاستسلام، بل باتوا مرصودين لمستقبلٍ ترفرف فوقه راياتُ الكرامة. لقد انتقم أيّار 2000، إذًا، لكلّ الشهور العربيّة الأليمة، وثأر السيّد حسن نصرالله لعشرات القادة المكافحين ضدّ الكيان الصهيونيّ: من الشيخ عزّ الدين القسّام إلى الرئيس جمال عبد الناصر.
* * *
قد يبدو نصرُ 2000، بحسب التوصيف السابق، معزولاً عن سياقٍ أعمّ، أو غرسةً يتيمةً في حقلٍ شاسعٍ من الهزائم. غير أنّ ذلك بعيدٌ كلَّ البعد عن الحقيقة التاريخيّة. فالمقاومة الإسلاميّة امتدادٌ لمقاوماتٍ عديدةٍ اتّخذتْ من لبنان مسرحًا لها منذ عقود: مع “الحرس الشعبيّ” ذي الهويّة الشيوعيّة في الستينيّات، فـ “جبهةِ المقاومة الشعبيّة لتحرير الجنوب من الاحتلال والفاشيّة” ذاتِ الهويّة الشيوعيّة أيضًا (من شهدائها الرفيقان “إيهاب” و”راجي” اللذان سقطا برصاص القوات الفرنسيّة أثناء عودتهما من مهمّة استطلاعيّةٍ لأحد مواقع الجيش الإسرائيلي في الجنوب عام 1978)، فـ “جبهةِ المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة” ذاتِ التوجّهاتِ الشيوعيّةِ والسوريّةِ القوميّة الاجتماعيّة في الغالب. طبعًا، نشأتْ عواملُ موضوعيّةٌ كثيرة أدّت إلى تراجع المقاومة العلمانيّة وإلى اندثارها تقريبًا، أبرزُها: انتصارُ الثورة الإسلاميّة في إيران، وانهيارُ المعسكر الاشتراكيّ، وتضعضعُ الحلم الاشتراكيّ بالتغيير، فضلاً عن انصباب الدعم السوريّ والإيرانيّ (لأسبابٍ لا مجالَ للخوض فيها) على جزءٍ دون غيره من المقاومة اللبنانيّة. كما وقعتْ أحداثٌ مفجعةٌ أدّت إلى تغييب اليسار عن ساحة القتال في الجنوب، مع أنه كان هو مَن أطلق المقاومةَ من بيروت في أيلول 1982؛ وعلى رأس هذه الأحداث: الصراعاتُ “الوطنيّةُ” الداميةُ التي دفع ثمنَها خيرةُ القيادات الشيوعيّة أمثال الشهداء حسين مروّة، ومهدي عامل، وخليل نعّوس.هذه التحوّلات الموضوعيّة والذاتيّة التي رافقت المقاومةَ اللبنانيّةَ غيّرتْ من طبيعتها الفكريّة وتكوينها وآفاقِها المرحليّة والمستقبليّة، لكنّها لم تبدِّلْ من غايتها الأساسيّة: أَلا وهي طردُ العدوّ الإسرائيليّ من لبنان. إنّ المقاومة، كما لا يَخفى عليكم، أفعالٌ تراكميّة، لا فعلٌ واحدٌ أُنجز مرةً واحدةً وإلى الأبد، وهي تتّخذ أشكالاً عديدةً بحسب الزمان والمعطياتِ الجغرافيّة والديموغرافيّة والسياسيّة. ولذلك فإنه ليس من التعسّفِ القولُ إنّ حزبَ الله لا يَحْمل في ثناياه تراثَ الحسين وأبي ذرّ الغفاري والخميْنيّ وحده، وإنما تراثَ المقاومات المتعدّدة أيضًا، الشيوعيّةِ والقوميّة، اللبنانيّةِ والفلسطينيّةِ والعربيّة. كما أنّ مسارَ حزب الله لا يَرسمُه توجُّهُهه الإيديولوجيُّ المسبّقُ وحده، بل تفاعلُه (أو لاتفاعلُه) مع التنظيمات الأخرى من حوله كذلك. وإلاّ فكيف نفسِّرُ، مثلاً، إحدى خطب السيّد حسن نصر الله العاشورائيّة التي أَعربَ فيها عن احترامه البالغ لكلّ شهيدٍ وطنيّ وإنْ لم يؤْمنْ بالله واليومِ الآخر؟! تُرى لو لم يَسْقطْ للشيوعيين أحدَ عشرَ شهيدًا أو أكثر في المواجهات مع العدوّ الإسرائيليّ عامَ 2006، هل كان نصرُ الله ليقول ما قال؟ في المحصّلة، إذنْ، المقاومة فعلٌ دنيويّ، بِنْتُ هذا العالم الذي نعيش فيه، وبِنْتُ تحوّلاته، بصرف النظر عمّا إذا كانت إيديولوجيتُها دينيّةً.
* * *
على أنّ هذا شيءٌ، وتصويرَ المقاومة الإسلاميّة وكأنها كلُّ ما نبتغيه ونشتهيه شيءٌ آخر. بل لقد بلغ الأمرُ ببعض اليساريين، ولاسيّما في أوروبا مثلاً، أنِ اعتبر حزبَ الله أشبهَ بحزبٍ شيوعيٍّ من طرازٍ جديد. لقد كنّا، معشر اليساريين والقوميين، في حاجةٍ إلى منقذٍ من إحباطاتنا وهزائمنا؛ وحين جاء حزبُ الله بنصريْه الرائعيْن في أيّار 2000 وتمّوز 2006، كاد بعضُنا ينسى أهدافَه الأولى التي لا تتلخّص في تحرير الأرض فقط، على أهميّة ذلك وجلاله. وراح بعضُنا يُلبس حزبَ الله أرديةً ليست له، أو يُحاجِجُ بأنّ التحريرَ الوطنيّ مرحلةٌ “تسْبق” التحريرَ الداخليّ والعمليّةَ الديمقراطيّةَ برمّتها، وبأنّ علينا ـ من ثمّ ـ أن “نؤجِّل” الصراعَ الديمقراطيّ مع حزب الله إلى ما بعد التحرير (والأمرُ عينُه قد ينطبق على منطق بعض اليساريين الفلسطينيين من حركة حماس). نعم، ثمّة في لبنان اليوم (كما في فلسطين وغيرِ مكان) مَنْ تناسى قانونَ “التحالف والصراع،” وهو قانونٌ ضروريٌّ في أيّ علاقةٍ مع القوى التي تَجْمعنا بها أهدافٌ كبرى ولكنْ تَفْصلُنا عنها أهدافٌ كبرى أخرى. ولشدّة إحباطاتنا وهزائمنا، كقوًى وطنيّةٍ ويساريّةٍ وقوميّة،أغفلنا أنّ حزبَ الله المقاوم هو، في الأساس، حزبٌ دينيّ، قاعدتُه من مذهبٍ معيّن، وأنه لا يخلو بالتالي من سياساتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ في لبنان والمنطقة، وأننا لن نستطيعَ مهما فَعَلْنا أن نقولبَه ضمن قوالبنا الفكريّة، أو أن نعتذرَ عن أفعاله التي لا نتّفق معها! الأهمّ من ذلك أننا لن نستطيعَ أن نطلبَ إليه أن يكون ما نريدُه. نستطيع، بل يجب، أن نطلبَ إليه، بحكم عدائنا المشتركِ لدولة الكيان الغاصب، أن يقتربَ ما استطاع ممّا نريده؛ ولكنْ ينبغي ألاّ نستشيطَ غضبًا أو نصابَ بالخيبة والمرارة إنْ لم يفعلْ. فلئن كان صحيحًا أنّ حزبَ الله متدرّجٌ من شجرة المقاومات المتعدّدة في لبنان، فإنه من الصحيح أيضًا أنّه ينتمي إلى تقليدٍ فكريّ مختلف، وإلى منظومةٍ سياسيّةٍ مختلفة، وإلى تحالفاتٍ إقليميّةٍ مختلفة، عن المقاومات اليساريّة والقوميّة السابقة. وإنّ عدمَ إدراك هذه الحقائق إيهامٌ ذاتيٌّ لن يجدي فتيلاً، وتحميلٌ لحزب الله ما لا يطيقه، ودعوةٌ مباشرةٌ إلى التراخي عن واجباتنا ـ قوميين ويساريين ـ في العودة إلى ساحة المقاومة المسلّحة وفي تعزيز مجالاتِ المقاومةِ الأخرى التي لا يمارسها الحزبُ المذكور (كمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل، وعلمنة الدولة والمجتمع، ومحاربةِ الرقابات الفكريّة،…).(1)
* * *
على الساحة الداخليّة لا يبدو حزبُ الله مختلفًا كثيرًا عن معظم الأطراف اللبنانيّة الأخرى. فهو يؤْمن بـ “الديمقراطيّة التوافقيّة”ـ وهي لو تعلمون، أيّها الأصدقاء، بدعةٌ من البِدع اللبنانيّة الطريفة التي يرعاها النظامُ الرسميُّ العربيّ. وهو مؤْمن، بلسان أمينه العامّ، أنّ “لبنان هيك” أو “هيدا لبنان يا إخوان،” أيْ لن يتغيّر بشكلٍ جذريّ. لذا لم يكن غريبًا أن يجلسَ حزبُ الله بعد 7 أيّار 2008 مع مَنْ كان يتّهمهم بالعمالة والخيانة المباشرة في حكومة “وفاقٍ” واحدة، وأن يتحالفَ قبل ذلك التاريخ وبعده مع حركة أمل المذهبيّة في كلّ المحطّات الانتخابيّة والبلديّة تقريبًا، وأن يَرفضَ إعطاءَ أصواتِ ناخبيه للأسير الشيوعيّ المحرّر البطل أنور ياسين ولنائب الأمين العام للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ آنذاك سعد الله مزرعاني إرضاءً ـ على الأرجح ـ للحليف الشيعيّ نبيه برّي، وأن يتّفقَ على عدم منافسة الحريري هنا أو هناك. إنّ أقصى ما يَطمح إليه حزبُ الله، على الصعيد اللبنانيّ الداخليّ، هو معادلةٌ داخليّةٌ تحمي ظهرَ المقاومة. بيْد أنّ هذا الهاجس، النبيلَ في ذاته، لا يعدو أن يكون معادلةً طوائفيّةً جديدة، قد تشكّل تطوّرًا بالفعل باتجاه نوعٍ محدودٍ من العدالة (على أساس أنّ الشيعة هم مِنْ أكبر الطوائف المحرومة) لكنها ليست الـ عدالةَ الاجتماعيّةَ التي نتوق إليها كيساريين مثلاً؛ فالعدالة التي ننادي بها ينبغي ألاّ تقتصرَ على رفع الغُبن عن طائفةٍ أو مذهبٍ معيّنيْن، ناهيك برفعه عن طبقةٍ محدّدةٍ داخلهما. بكلامٍ آخر، حزبُ الله يَعْمل من ضمن التركيبة الطائفيّة ـ الطبقيّة اللبنانيّة بهدف تعديلها نحو الأفضل، من منظوره المحدود، وربّما من منظور بعض حلفائه المباشرين الآخرين. مشكلتُه في الأساس ليست مع النظام الطائفيّ ـ الطبقيّ برمّته، بل مع بعض ممثّليه، ولاسيّما الذين لا يوافقون على سلاح المقاومة. وأما هدفُ الاشتراكيين فيطول (أو يجب أن يَطُول) البنيةَ الطائفيّةَ والطبقيّةَ بأكملها، من أجل بناء نظام علمانيّ ديمقراطيّ اشتراكيّ عربيّ متحالفٍ (إلى حدودٍ ما) مع المشاريع الإقليميّة التي تتقاطع مع مشروعنا العربيّ العتيد.(2)ثم إنّ المقاومة في لبنان، ما لم تكن معمَّمةً على أقسام متعدّدةٍ من النسيج اللبنانيّ، محكومةٌ هي ذاتها بأن تتعرّضَ لضرباتٍ داخليّةٍ كبيرة، إمّا بالتآمر الأمنيّ عليها كما حصل في 5 أيّار 2008 حين امتدّت يدُ السلطة المتواطئةِ مع مشاريع الخارج لنزع أحد أهمّ أسلحة المقاومة (عنيتُ سلاحَ الاتصالات السلكيّة)، وإمّا بإسهامها ولو عن غير قصد في استفزاز عصبيّاتٍ مذهبيّةٍ وطائفيّةٍ أخرى، ولاسيّما في مثل هذه الأوضاع العربيّة التي يغذّي فيها الأميركيون عناصرَ الشقاق السنيّ ـ الشيعيّ في مجتمعاتنا. وهكذا فإنّ “حمايةَ ظهر المقاومة” ستَفْشل هي ذاتُها، ما دام يَحْكمها منطقٌ طوائفيٌّ ونخبويٌّ (من قبيل جهْدِ حزب الله من أجل إحلال ممثّلي طوائف “وطنيين” مكانَ ممثّلي طوائف “عملاء” أو غير وطنيين)، لا منطقٌ شعبيّ ونقابيّ واسع. المسألة هي أننا لا نستطيع أن نطلبَ إلى حزبٍ ذي قاعدةٍ مذهبيّةٍ وإيديولوجيا دينيّةٍ، وإنْ كان حزبًا وطنيًّا مقاومًا من الطراز الأرفع والأشجع والأنبل، أن يتبنّى ويمارسَ المواطنيّةَ أو العَلمانيّة! بمعنًى أبسط، لن تَحْملَ المشروعَ العلمانيَّ المترابطَ مع المقاومة، بكلّ أشكالها المدنيّةِ والمسلّحة، إلا جماعةٌ علمانيّةٌ مقاومة. وهذه دعوةٌ واضحةٌ لكلّ أحزاب اليسار، لا إلى تعزيز أشكال المقاومة غير المسلّحة التي تطرّقنا إليها آنفًا فحسب، بل إلى العودة كذلك إلى ميدان المقاومة المسلّحة ولو على مستوى التدريب السرّيّ الأوليّ في الوقت الراهن.هذا ناهيكم بأنّ العصبيّة المذهبيّة (أو مشاعرَ التضامن المذهبيّ) لدى الإخوة المقاومين في حزب الله لا تساهم في تقويض أسس الحلّ المواطنيّ داخل لبنان فحسب، وذلك عبر تنفير كثيرين من أفراد الطوائف والمذاهب والقوى الأخرى، بل تخلخل أيضًا الدعمَ العربيّ الضروريّ للمقاومة العراقيّة، بشقّها الوطنيّ لا التكفيريّ طبعًا. ولا يتجاهلنّ أحدٌ ما نعنيه هنا بعصبيّة الحزب المذهبيّة، إذ كيف تفسّرون مثلاً اعتبارَه أحدَ أكبر مناهضي مقاومة الاحتلال في العراق محمد باقر الحكيم شهيدًا؟(3) وكيف نعلّل استقبالَ السيّد حسن نصرالله لعمّار الحكيم؟
* * *
قد يبدو ما أدعو اليه مثاليًّا إلى حدٍّ ما لأنه لا يأخذ في الاعتبار هلهلةَ اليسار اللبنانيّ اليوم، وتشرذمَه، وأنانيّاتِه. لكنّ المثالَ مرشَّحٌ دومًا لأن يصيرَ أقربَ إلى الواقع بالعمل الدؤوب والمخْلص. ألم يَرْفعْ طلاّبُ فرنسا عامَ 1968 شعار: “كونوا واقعيين… أطلبوا المستحيل”؟!
سماح إدريس
بيروت
* ـ نصّ كلمة رئيس تحرير مجلة الآداب في مخيمّ خان الشيح في سوريّة، في ذكرى تحرير عام 2000. وقد قُدّمتْ إلى مؤتمر حيفا الذي نظّمته “حركةُ أبناء البلد” في فلسطين المحتلّة في نهاية شهر أيّار، ونُشرتْ في جريدة الأخبار في الأسبوع الأول من حزيران، ونعيد نشرَها هنا بغرض مزيدٍ من النقاش المحتمل.1 ـ لا يدعو حزبُ الله مثلاً، في حدّ اطّلاعي (وهو ليس متواضعًا)، إلى مقاطعة شركة نسله السويسريّة (للمعلومات عن دعم هذه الشركة لدولة العدوّ، راجع: كيرستن شايد، http://www.adabmag.com/sites/default/files/boycott/5.pdf).على أنه تنبغي الإشارةُ إلى أنّ الحزب، خلافًا لموقفه المائع من مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل، أشدُّ اهتمامًا بمقاومة التطبيع الثقافيّ، على ما تدلّ تغطيةُ قناته التلفزيونيّة، “المنار،” لزيارة الكوميديّ المغربيّ الصهيونيّ جاد المليح العام الماضي، وزيارة فرقة پلاسيبو البريطانيّة قبل أيّام، إلى لبنان. للاطّلاع على أسباب قولي إنّ المليح وپلاسيبو داعمان للكيان الصهيونيّ، راجعْ مقالتي في الأخبار بتاريخ 2/7/2009، والمؤتمر الصحفيّ الذي عقدتُه مع ناشطين آخرين قبل أيّام في مقهى ة (تاء مربوطة) ضدّ پلاسيبو (وغطّته الأخبار بتاريخ 9/6/2010). 2 ـ يراجع مقالي في الأخبار، “التفكّك العربيّ في غياب العروبة،” 25/5/2010.3 ـ أقلُّ ما يقال في الحكيم إنه كان معارضًا للمقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال الأميركيّ. يقول مثلاً: “منهجُ القوة لا يُعتمد إلاّ بعد استنفاد كافّة الأساليب السلميّة والكلمة الطيّبة والحوار والمنطق، وهو ما لم يُستنفد بعدُ ]!]. وعلينا بذلُ الجهود المشروعة ذاتِ الطابع السلميّ لإنهاء الاحتلال.” ترى، أيُّ عاقلٍ يصدِّق أنّ الكلمة الطيّبة والحوارَ والمنطقَ ستزيل الاحتلالَ الأميركيّ؟