Site-Logo
Site Navigation

تونس: “تضامن دولي” أم “إستقواء بالأجنبي”؟

9. August 2010
الطاهر المعز

صادق مجلس الوزراء في تونس، يوم 19 أيار/مايو 2010، على مشروع قانون، عرف باسم "قانون الأمن الإقتصادي"، ويتلخص في تجريم "كل تونسي يتعمد ربط اتصالات مع جهات أجنبية للتحريض على الإضرار بالمصالح الحيوية للبلاد، وكل ما يتعلق بأمنها الإقتصادي..."... أو "لحماية الأمن الاقتصادي للبلاد"، نظراً لـ" أهمية الأمن الاقتصادي في تعزيز مناعة الوطن وتأمين مصالح المواطنين الحياتية..."، حسب ما جاء في تصريحات مسؤولي الدولة والحزب الحاكم... وتتراوح العقوبة بين خمس سنوات واثني عشرة سنة سجناً...


كتبت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في بيان لها في تاريخ 25/05/2010 : ” إن الغموض الذي يكتنف مشروع القانون الجديد، وعمومية العبارات المستعملة، تمثلان خطرا على الحريات العامة…” وخشي آخرون من استخدامه لتكميم أفواه معارضي سياسة الحكومة. بشكل عام، يسمح القانون بمحاكمة فرد أو مجموعة، أحزاب أو نقابات أو جمعيات، ترصد الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وتنقد الوضع القائم، أو الإختيارات الإقتصادية، لتقترح بديلا أو برنامجا آخر، وفي حالة نشر هذه المواقف والتعريف بها لدى الأصدقاء في تونس أو خارجها، فإن ذلك يمكن أن تعتبره السلطة عملا يلحق ضررا بالأمن الإقتصادي للبلاد…

عرضت الحكومة مشروع القانون أمام البرلمان، بصفة استعجالية، يوم 15 يونيو/حزيران، وتمت المصادقة عليه بالإجماع، باستثناء نائبين من “حركة التجديد”، ونشر بالجريدة الرسمية يوم 1 يوليو/تموز2010…وتمثل القانون في تنقيح الفصل 61 مكرر من المجلة الجزائية، وبذلك وقعت المساواة (نظريا وقانونيا) بين الإخلال بالأمن العسكري أو الدبلوماسي، ( التخابر، الخيانة، التجسس)، ونشر تحليل عن الوضع الإقتصادي… أثار هذا الموضوع جدلا واسعا بسبب ما سبقه وما رافقه من أحداث ووقائع، ودعاية… كما أن الصيغة الإستعجالية، والأهمية التي أولتها الحكومة لهذا القانون، تثير عدداً من التساؤلات المشروعة، إذ لم تمر ثلاثة أسابيع، بين مصادقة مجلس الوزراء ومصادقة البرلمان على هذا القانون. من جهة أخرى، فإن القانون التونسي يحتوي على عدد كبير من الفصول الزجرية التي تمكّن من حبس وتغريم كل معارض للتوجهات الحكومية، إضافة إلى تنقية جهاز القضاء من كل مُدافِع عن استقلاليته عن السلطة التنفيدية، وإبعاده إلى المناطق النائية، وحرمانه من المنح والعلاوات والترقيات الخ..؛ لذا فلم تكن هناك ضرورة لهذه العجلة، ولا لقانون جديد أصلا، بما أن الحزب الحاكم مسيطر على كل مؤسسات الدولة، وعلى أجهزة الإعلام، وكل الفضاءات والجمعيات الخ..

ظروف استصدار قانون “الأمن الإقتصادي”

ارتبطت تونس مع الإتحاد الأوروبي باتفاقية شراكة(منذ 1995) وبذلك انفتحت السوق التونسية أمام الرساميل والمنتوجات الأوروبية، وكان من المفترض أن تكون السوق الأوروبية مفتوحة أيضا أمام المنتوجات التونسية، شرط أن تنطبق عليها المواصفات الأوروبية، المفروضة على “الشركاء”، وهنا تكمن إحدى مظاهر الهيمنة…أما تنقل البشر بين ضفتي المتوسط، فإن الأوروبيين يدخلون تونس بدون تأشيرة، ومن غير جواز سفر، بل تكفي بطاقة هوية، عندما تكون الرحلات جماعية… أما حصول التونسيين على تأشيرة دخول إلى أوروبا فقد أصبح أمرا في غاية الصعوبة، باستثناء الأثرياء طبعا، ورجال (ونساء) الأعمال، وبعض رموز “المجتمع المدني”…

أدى تطبيق هذه الاتفاقية الأولى إلى فقدان ما لا يقل عن 350 ألف وظيفة في تونس، حسب نقابة أرباب العمل، نتيجة إغلاق مئات الورشات والمصانع التي لم تتمكن من الاستثمار لـ”تأهيل” منتوجاتها حتى تنطبق عليها “المواصفات الأوروبية” المفروضة… كانت تونس أول بلد من الضفة الجنوبية للمتوسط، يمضي اتفاقية شراكة مع الإتحاد الأوروبي (باستثناء الكيان الصهيوني، الذي يتمتع بوضع تفضيلي)، لكنّ المغرب والأردن سبقاها لإبرام اتفاقية “شراكة متقدمة”، وكان لقاء 11 أيار/مايو 2010 ، بين تونس والإتحاد الأوروبي، المخصص لنقاش مسألة حصول تونس على “مرتبة الشريك المتقدم”، مخيبا لآمال الحكومة التونسية، إذ أجّل الإتحاد الأوروبي (الطرف المهيمن في هذه العلاقة) الحسم في هذه المسألة إلى نهاية العام الحالي (2010)، وطلب من حكومة تونس العمل على تحسين صورتها بخصوص قضايا حقوق الإنسان… وبعد أسبوع واحد، صادق مجلس وزراء تونس على مشروع “قانون الأمن الإقتصادي”، بدعوى أن مواطنين تونسيين، ينتمون إلى منظمات حقوقية أو سياسية، قاموا بحملة في أوروبا “بهدف حرمان تونس من الحصول على مرتبة الشريك المتقدم”، حسب الدعاية الرسمية وشبه الرسمية للسلطة… وكانت بعض الصحف الحكومية و”المستقلة”، المغالية في التزلف والإنحطاط، قد شنّت حملة شرسة، استهدفت مواطناتٍ ومواطنين، منتمين لبعض “المنظمات غير الحكومية”، تميزت بالسب والقذف، واستهداف الشرف والعرض، والحياة العائلية أو الخاصة، وأشارت العديد من المنظمات الدولية إلى ذلك ذاكرةً بالاسم عدداً من الصحف التونسية المساهِمة في هذه الحملة… وقد سبقتها حملاتٌ أخرى مماثلة، واستهدافٌ للممتلكات واعتداءات بالضرب من قبل “مجهولين”، في تونس وخارجها؛ وعندما يشتكي ضحايا هذه الممارسات، فلا شرطة تعثر على المعتدين، ولا قضاء يبحث عنهم أو يدينهم، بل كثيرا ما سلطت العقوبات على الضحايا… بلغت هذه الحملة أوجها خلال شهري أيار/مايو و يونيو/حزيران 2010، إذ نُعِتت النساء بالعهر، والدعارة، وبالبشاعة… ووُصِف الرجال بالخونة وعملاء المخابرات الصهيونية “الموساد”، وحمّلتهم السلطة مسؤولية فشل مساعي الحكومة للحصول على مرتبة “الشريك المتقدم”، كما تتهمهم بأنهم (نتيجة لذلك) تسببوا في تدهور الوضع الإقتصادي، وحرمان التونسيين العاطلين عن العمل (خصوصا الشباب المتخرج من الجامعة) من وظائف، كانوا (ولا بد) سيحصلون عليها، لولا “الحملة المضادة لمساعي الحكومة”… تحاول الحكومة الضرب على الوتر الحساس، لتظهر في صورة المحارب للبطالة داخليا، والمناهض للصهيونية (وربما للإمبريالية؟) عربيا ودوليا… وكانت دعاية النظام، قبل عقود، تصف المعارضين ب”شرذمة ضالّة، تصطاد في الماء العكر”، أما الآن فإنهم يشوّهون سمعة البلاد، ويخربون الاقتصاد، من خلال “الإستقواء بالأجنبي والعمالة للصهيونية”. فالحكومة التونسية، بجيشها وشرطتها (وفيرة العدد والعدّة)، بوسائل إعلامها وعلاقاتها الدبلوماسية، وغير ذلك من الوسائل التي تملكها، مثل “وكالة الإتصال الخارجي”، تريد إظهار نفسها بصورة فاقد الحول والقوة، أمام بعض الأفراد والمجموعات الصغيرة…أم أن المستهدف هو كل من ينقد الوضع السياسي والإقتصادي والإجتماعي…؟

موجز عن حالة الإقتصاد التونسي

إن ميزة الإقتصاد التونسي حاليا، ومنذ عقود، هي هشاشة البُنية والإرتباط بالأسواق والاستثمارات الخارجية (أوروبا في الدرجة الأولى)، والاعتماد على تصدير منتوجات ذات قيمة مضافة ضعيفة، كالنسيج والمواد الفلاحية غير المصنَّعة، وتعتمد على أيدٍ عاملة رخيصة، وغير مختصة، وتتأتى أهم الموارد من الفلاحة والخدمات والسياحة والعمال المهاجرين، وتصدير المواد الخام كالفوسفاط… لقد بلغ معدل البطالة المصرَّح به 14,7 % من القادرين على العمل، ويجد الشباب المتخرج من الجامعة صعوبات جمة في الحصول على عمل… أما القطاع العام فقد تمت تصفيته وبيعه للخواص، المحليين والأجانب، بما في ذلك الأراضي الزراعية الخصبة، وبشروطٍ تُخلُّ بالأمن الاقتصادي، مثل مشروع “سما دبي”، وهو عبارة عن دويلة داخل الدولة، خارجة عن سلطتها، وإشرافها، حتى في ميدان التشغيل، والجمارك… أو مشروع تأجير أراضٍ زراعية خصبة (هي آخر ما تبقى من القطاع العام الفلاحي)، مخلّ بالأمن الغذائي…

خلال العقود الماضية، اتخذ النظام الحاكم إجراءات متتالية، تطبيقا لوصفات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ومنها، على سبيل الذكر:

أ – تخفيض قيمة الدينار، واحتجاج الإتحاد العام التونسي للشغل (نقابة الأُجراء)، عام 1965، مما أدى إلى أزمة ذهب ضحيتها الأمين العام (أحمد التليلي)، الذي عُزل وأودِع السجن، رغم انتمائه لقيادة الحزب الحاكم، ومقاومته للإستعمار… ونصّب الحزب الحاكم قيادةً، على المقاس، على رأس الإتحاد العام التونسي للشغل…

ب – تبنّي اللبرالية الإقتصادية ومواصلة الإنغلاق السياسي، منذ عام 1971، وإصدار “قانون أبريل 1972” ومن بعده “قانون 1974″، وهما يتيحان لرأس المال الأجنبي الاستثمار في تونس، والتمتع بإعفاءات ضريبية وجمركية، وإعادة تصدير رأس المال والأرباح، واستغلال فاحش للعاملات والعمال التونسيين، الذين يطردون (بمباركة ممثلي السلطة) لمجرد مطالبتهم بالأجر الأدنى أو خلاص ساعات العمل الإضافية أو الإنتماء للنقابة…استغل الرأسماليون الأوروبون هذا القانون فاستثمروا في قطاعات النسيج، وبعض مصانع التركيب البسيطة، وقطاع الإلكترونيات والتجهيزات المنزلية… وكل ما هو مضر بالصحة، ولا يتطلب تكوينا عاليا أو مهارات خاصة…

ج – منذ منتصف العام 1976، بدأ التململ بارزا في أوساط العمال والموظفين، بسبب ضعف الأجور، وارتفاع نسب التضخم، وخنق كل صوت ناقد لسياسة حكومة السيد “الهادي نويرة” (وهو رأسمالي، وصاحب سوابق في الإنقلاب على النقابات منذ… 1937)؛ و تكاثرت الإضرابات القطاعية، منها إضراب عمال النسيج في مدينة “قصر هلال” في أكتوبر 1977، واستعمال الجيش لمحاصرة المدينة، وإطلاق النار على المواطنين… توِّجت هذه الإضرابات القطاعية بإضراب عام، يوم الخميس 26 يناير 1978، وما نتج عنه من استعمال الجيش والقتل بالرصاص الحي، وسجن وملاحقات، وتنصيب قيادة موالية الحكومة، على رأس “الإتحاد العام التونسي للشغل”، عوضا عن القيادة الشرعية، التي تم الزج بأعضائها في السجن… ولولا صمود النقابيين، والتعريف بقضيتهم في الخارج، بواسطة الإعلام والوثائق والشهادات، لما خرج النقابيون من السجون، بعد سنتين (عوضا عن 10 سنوات، قضت بها المحاكم)…

د – في الأيام الأخيرة من عام 1983، والأيام الأولى من عام 1984، عمّت المظاهرات البلاد، احتجاجا على زيادة الأسعار، ورفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية والضرورية… وأطلق الجيش النار على المواطنين فمات المئات، وأعلنت حالة الطوارئ، وسجن آلاف الشبان، بدعوى “الإخلال بالأمن العام، والقيام بأعمال شغب…”. خلال العام التالي أعلنت الحكومة رسميا عن تطبيق “مخطط الإصلاح الهيكلي” الذي فرضه صندوق النقد الدولي، فكانت نتائجه كارثية على الإقتصاد وعلى المجتمع، وخصوصا على الكادحين والفقراء، وصغار الموظفين…

ه – تزامن تقلص دور الدولة الإقتصادي، وخصخصة القطاع العام، مع تضخم دور الدولة القمعي، بواسطة مختلف أجهزتها، من شرطة وقضاء، بالإضافة إلى تحويل الضريبة من واجب إلى عقوبة… هذا التشدد في مجال الحريات الفردية والجماعية، كان بالتوازي مع “الإنفتاح” الإقتصادي، وغزو الرساميل والمنتوجات الأجنبية (الأوروبية خصوصا)، وضبابية المعاملات المصرفية… أما المنتوجات التونسية، فتلاقي عراقيل للنفاذ إلى السوق الأوروبية، رغم “التسهيلات” النظرية. وقد تميزت علاقات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، بخضوع الإقتصاد التونسي التام للشروط التي تفرضها أوروبا

و – طبقت الحكومات التونسية المتعاقبة وصفات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، رغم الضرر الواضح الذي لحق اقتصاد البلدان التي فعلت ذلك، وبيّنت الأزمة الأخيرة أن البلدان الفقيرة التي خالفت “تعاليم” هاتين المؤسستين، كانت أقل تضررا واستطاعت تلافي النتائج الوخيمة للأزمة… أما الحكومة التونسية فإنها كانت على وشك تطبيق بعض “النصائح”، التي صدرت في بداية الأزمة، ما بين سبتمبر 2006 وفبراير 2007، والمتمثلة في الإمتناع عن زراعة الحبوب وعدد من الخضار والفواكه، وتربية الماشية، لأن صندوق النقد والبنك العالمي ادّعيا أنها مُكْلِفة وغير ذات جدوى، وأن استيراد الحبوب، والبطاطا، ومشتقّات الحليب، واللحوم وغيرها، أقل تكلفة من إنتاجها. وانبرت الصحف الرسمية وشبه الرسمية تهلِّل لذلك، غير أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية آنذاك أنقذ الموقف(ربما مؤقتا). وتشغل الفلاحة عددا من العمال القارّين، يفوق الوظيفة العمومية أو السياحة أو الصناعة، عدا عن الأهمية القصوى للأمن الغذائي…

ز – قامت الحكومة التونسية بخصخصة عدد من المؤسسات العمومية التي يعتبر إنتاجها ضروريا، للإستهلاك المحلي، وبعد الخصخصة، غيَّرَ المالكون الجدد خصائص الإنتاج، الذي أصبح مُعدّا للتصدير، وأصبحت الدولة تلتجئ إلى التوريد بثمن أعلى وجودة أقل، كما حصل في قطاع الإسمنت…


الوضع السياسي

في تونس، هناك تسعة أحزاب معترفٌ بها، وعدد لا يحصى من الصحف اليومية والأسبوعية، وآلاف الجمعيات… لكن الحزب الحاكم يسيطر على الحياة السياسية بشكل مطلق، والصحف والجمعيات المستقلة عنه، تُعدّ على الأصابع… وقد ساهمت الصحف الرسمية و”المستقلة” في شنّ حملات تشويه متعاقبة ضد أفراد عبّروا عن قناعاتهم، أو قاموا بممارسة حقوقهم، بشكل لا يرضي الحزب الحاكم، وتتكفل الشرطة بالحد من تحركاتهم، وحتى حبسهم في بيوتهم، ومنعهم من الخروج، وتقيم نقاط تفتيش في مداخل المدن، ومنع بعض المواطنين من دخولها أو الخروج منها…كما يتحكم الحزب الحاكم (الذي لا يفرّق بين هياكله الحزبية وهياكل وأجهزة الدولة) في كل الفضاءات العمومية، إلا ما ندر، وبذلك يحرم الأحزاب والجمعيات من قاعات للإجتماع ويضغط على الفنادق الخاصة، حتى أثناء الحملات الإنتخابية، كي ترفض تأجير قاعاتها، وإلا فمصلحة الضرائب أو المراقبة الصحية بالمرصاد لتتسبب في تحرير “شهادة وفاة” المؤسسة أو الفندق التابع لها…تجري مختلف الإنتخابات في وقتها المحدد، دون تقديم أو تأخير، لكنها لا تحمل في طيّاتها أي مفاجأة، وهناك عدد من الممارسات الكفيلة بردع أي مُعارِض عن المشاركة في الإنتخابات، تبدأ بعدم ترسيم كل من يشتبه في عدم ولائه للحزب الحاكم، مرورا بمنع الإجتماعات وتنقل المترشحين، وإسقاط قائمات المعارضة، أي عدم قبول ترشحها، وانتهاءً بتزييف النتائج، لكن هذا الأمر مشاع ومشترك بين الأنظمة العربية (وغير العربية أيضا).

أما في الخارج فإن للسلطة موظفون محترفون، قارّون، تتلخص مهامهم في الإتصال المستمر بالمنظمات الأممية المختلفة وإبراز ما تقوم به الحكومة من “إجراءات إيجابية” في كافة الميادين كالبيئة وحقوق الطفل وحقوق المرأة والتعليم الخ. وهناك موظفون قارّون تتلخص مهمتهم في رصد الإعتمادات والمساعدات الأممية والأوروبية لمختلف المشاريع، ولهم إلمام واسع بمختلف الملفات وطرق التمويل، ونوعية المشاريع… ويقومون بجلب الأموال التي تستفيد منها المنظمات الرسمية وشبه الرسمية، التي تدور في فلك الحزب الحاكم، بدعوى كونها منظمات غير حكومية، وأحيانا يخلق الحزب الحاكم جمعية، على مقاس البرامج التمويلية للإتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة أو وزارة الخارجية الأمريكية… كما تنظم الحكومة حفلات واستقبالات على شرف الصحافيين الأجانب، والبرلمانيين الأوروبيين والأمريكيين، والموظفين السامين… كما تنظم رحلات “استكشافية” أو “دراسية” من أوروبا أو أمريكا إلى تونس لمدة أسبوع أو أسبوعين، مجانا، خصوصا للصحافيين، عملا بالمثل القائل “أطعم الفم، كي تستحي العين”… أما جمعيات “الصداقة” الأوروبية مع تونس فهي تضم عددا من اليمينيين المعادين للقضايا العادلة وللمهاجرين، ومن غلاة الصهاينة، (إريك راوولت وبيار للوش في فرنسا مثلا)، وتفتخر الصحف الرسمية بدعوة فنانين معروفين بولائهم وتمويلهم للمشاريع الصهيونية (أرتور، مثلا)… أما “وكالة الإتصال الخارجي” فهي مؤسسة حكومية، مهمتها إنتاج المادة الإعلامية والدعاية لإنجازات النظام، وتقديمه كنموذج للتقدم والتطور والإنفتاح والإعتدال الخ.


بعض الحقائق عن العلاقات مع الكيان الصهيوني

استقرت قيادة منظمة التحرير في تونس بعد اجتياح لبنان من قبل الجيش الصهيوني، وإخراجها من بيروت، عام 1982، وأصبحت تونس (تبعا لذلك) مكانا للمفاوضات السرية، ووكرا للمخابرات، ومنها المخابرات الصهيونية، خصوصا وأنها كانت تؤوي الجامعة العربية، بعد زيارة السادات لصديقه “مناحيم بيغن” في فلسطين المحتلة… وكأي بلد سياحي “مفتوح” فإنها عرضة لتغلغل الجواسيس داخل النسيج الإجتماعي، وجمع المعلومات بسهولة تامة، ونشر إيديولوجيا الخنوع والخضوع، بدعوى الإنفتاح والحداثة…

في صباح الأول من أكتوبر 1985، قامت الطائرات العسكرية للكيان الصهيوني (بمساعدة أوروبية وأطلسية) بقصف الضاحية الجنوبية “حمام الشط”، فقتلت عددا غير معلن من الفلسطينيين والتونسيين، وادّعى الإعلام الرسمي، حتى الرابعة مساءً، أن الطائرات المعتدية “مجهولة الهوية” وروّج إشاعة مفادها أنها قد تكون ليبية…رغم إعلان وسائل الإعلام الأجنبية، منذ الصباح، عن هويتها الصهيونية… أما أثناء الإنتفاضة (الأولى) فقد اغتالت أجهزة المخابرات الصهيونية، في تونس “أبو جهاد” ثم “أبو إياد”… وعوض البحث عن الخلل الذي جعل القصف ممكنا والاغتيالات تنفّذ، بدون عوائق، فإن السلطة منعت المواطنين من التعبير عن غضبهم… بعد اتفاقيات أوسلو، ربطت حكومة تونس علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، واستقبلت وفودا رسمية، وحطّت طائراتهم في مطارات تونس، رافعة علم الكيان الصهيوني إلى جانب العلم التونسي، وتستقبل البلاد سنويا آلاف اليهود من حاملي جوازات السفر “الإسرائيلية” يأتون للحج في “الغريبة” (جربة)، ونظمت مؤتمرات في تونس بمشاركة الصهاينة، المشاركين مباشرة في اغتصاب الأرض، مثل الأكاديميين والجغرافيين… وأثار استقبال وفد رسمي يقيادة وزير خارجية الكيان الصهيوني، أثناء انعقاد مؤتمر “مجتمع المعلومات”، عام 2005، وتنظيم جولة “شعبية” له، ردود فعل وإضرابات… أما غلاة الصهاينة في أوروبا، فإنهم من أكبر المدافعين عن النظام في تونس، رغم عدائهم الشديد للعرب والإسلام والمهاجرين، ودفاعهم عن احتلال العراق وأفغانستان الخ…

تقول المصادر الصهيونية، ومنها “اتحاد الصناعيين الإسرائيليين”، أنه خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2008، بلغت قيمة الصادرات المباشرة للكيان الصهيوني نحو تونس 1,8 مليون دولار، وتصف السوق التونسية (والمغربية) بأنها واعدة، أما الصادرات غير المباشرة، أي التي تمر بطرف ثالث، أوروبي أو عربي (الأردن، مصر) فإنها تفوق ذلك بقليل؛ وهذا ليس حال تونس وحدها، وإنما تشمل القائمة كل الدول العربية وبعض الدول الإسلامية، مثل تركيا (التي لها علاقات عسكرية متينة بالجيش الصهيوني وصناعته العسكرية) وأندونيسيا وماليزيا والباكستان… ومن يقيم هذا النوع من العلاقات مع الصهاينة، لا يمكنه تعيير الآخرين بالعمالة للصهاينة…وقد فتحت دولة العدو مكتبا “لرعاية المصالح” في تونس في أبريل/نيسان 1996، وبعد ستة أسابيع(في أيار/مايو 1996) فتحت الدولة التونسية مكتبا مماثلا في فلسطين المحتلة…

استنتاجات

إن المسؤول الأول عن حالة الإقتصاد التونسي هو النظام الحاكم؛ فهو الذي يخطط، ويحدد الإتجاهات، وينفذ، ويعقد الإتفاقيات الدولية، ويتخذ قرارات الخصخصة… بناءً على تعاليم صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وأوامر الإتحاد الأوروبي…ومن حق كل مواطن أن ينقد ويعارض الإختيارات الإقتصادية والسياسية… وبما نظام الحكم يغلق كل المنافذ أمام معارضيه، سواءً كانوا من اليمين أو اليسار، أفرادا أو جماعات، أحزابا أو جمعيات…فهو مسؤول عن التجاء المواطنين للتعبير عن رأيهم بطرق ووسائل لا تروق له، وهو الوحيد المسؤول عن ذلك… كما أن التعرض لعرض وشرف المواطنين والمواطنات، والإعتداء عليهم بالعنف وتخريب ممتلكاتهم تصرف همجي، غير حضاري، ولا يمتّ بِصِلة إلى “دولة القانون والمؤسسات، وحقوق الإنسان”، التي تفترض مقارعة الحجة بالحجة، والإستماع إلى الرأي المخالف وتفنيده بالحجة والمنطق، لا بالعصي أو السباب والشتم… وكذلك الأمر بخصوص اتهام مواطنات ومواطنين بالخيانة والعمالة، أو التعامل مع الصهاينة، فإما أن تتمّ محاكمتهم بصورة علنية وشفافة وإما أن يحاكم من يطلق هذا النوع من الإتهامات…من جهة أخرى، فإن الحكومة التونسية تستنجد بأصدقائها لتعليل قرار أو إجراء معين، وتستشهد بالمشاهير والنكرات من الأوروبيين والأمريكيين الذين قالوا كلاما معسولا عن الوضع السياسي والإقتصادي في تونس، فلم تمنع ذلك عن معارضيها؟ فالسلطات في تونس سيّست الدين، واتهمت خصومها بفعل نفس الشيء، وكذلك الأمر ل”لإستقواء بالخارج”…

ملاحظات نقدية

إن التضامن مع من استهدفتهم (أو ستستهدفهم) “صحافة المزابل” مشروط بقبولهم النقاش الصريح، والنقد، وقبول الرأي المخالف، برحابة صدر، دون تشنج أو انفعال، لأن هذا التضامن هو مع أفراد استهدفهم النظام الحاكم والمقربون منه، وهو دفاع عن كل فرد منا، ولا يعني ذلك الإتفاق التام معهم في تحليلاتهم، وتوجهاتهم السياسية، أو ممارساتهم، التي يمكن أن تكون محل نقد من أي كان…وبما أن بعض هؤلاء يلتجئ لنفس المؤسسات التي يعتمد عليها النظام الحاكم، ليستمر في الحكم، ويمارس القمع، فإن بعض النقد والملاحظات باتت ضرورية، لكي لا يبقى بيننا ما هو “مسكوت عنه”، وحتى لا يكون ذلك سببا في انفجار داخلي لاحق…

إن العديد من أنظمة الدول المتخلفة لا يمكن لها أن تحكم أو تستمر في الحكم، لو فقدت السند الخارجي، من الولايات المتحدة وأوروبا، بشكل خاص، وهو ما ينطبق على النظام التونسي، الذي شهد له حكام فرنسا دائما “بالنجاح الإقتصادي” وب “الإعتدال والإنفتاح” الخ… فلا يمكن إذا فصل الوضع الإقتصادي عن السياسي، ولا الوضع الداخلي عن ارتباطات النظام الخارجية، وولاءاته وتبعيته، التي جلبت له تمويلات وقروضا وشهادات الإستحسان…

إن وصف النظام ب”الدكتاتوري” هو وصف غير كاف، رغم صحته، لأنه يميِّع مسألة طبيعة النظام ويختزلها في طريقة تسيير الشأن العام… فأي نظام حكم، يمثل بالضرورة مصالح طبقة أو تحالف طبقي، وكل معارضة تمثل أيضا طبقة أو طبقات أو فئات من المجتمع، والقول بأن مناهضة الدكتاتورية والحكم الفردي، عامل، أو قاسم مشترك كافي لإقامة جبهة موحدة للمعارضة، فيه مبالغة، أو عدم نضج سياسي، إن لم يكن ينم على مغالطة مقصودة، لغاية أو غايات “في نفس يعقوب”…قد تكون المعارضة للنظام الحالي حالة مؤقتة، عند البعض، أو معارضة جزئية لجانب من ممارسة الحكم، وقد تكون شاملة وترمي إلى تغيير النظام السياسي والإقتصادي برمته الخ. وتكمن الصعوبة في إيجاد القاسم المشترك، في كل لحظة تاريخية معينة، للقيام بعمل مشترك، يضعف النظام، ويقوي من إمكانية التغيير…أما “التغيير” فلا هو هدف في حد ذاته، ولا هو ضمان لتغيير حقيقي لأوضاع المقموعين والمضطهدين والمستغلين حاليا، خصوصا إذا استبعدوا من المشاركة، بقصد أو بغير قصد، أو اتخذت المعارضة أشكالا تبعدهم بالضرورة عن المشاركة في “التغيير”…

لقد دأبت الولايات المتحدة على ربط قنوات مع القوى المعارضة في كافة البلدان، بما فيها التي تحكمها أنظمة موالية لها، وتبعتها أوروبا في ذلك (وهو أساس “تقرير ابن سينا”، الذي أعدته فرنسا، وتبنّته أوروبا، فكان أساسا لمشروع الإتحاد من أجل المتوسط)، فتتشاور معها وتستقبلها في سفاراتها أو تدعوها إلى واشنطن للإطلاع على “إنجازات الديمقراطية الأمريكية”، كما وضعت برامج عديدة، تحت يافطات مختلفة: “تمكين المرأة”، “التدريب على الديمقراطية”، التأهيل”، “الدفاع عن حقوق الإنسان” أو حقوق المرأة أو حقوق الطفل الخ، ولها برامج موجهة لفئات اجتماعية معينة كالشباب (المثقف) والطلبة والصحافيين وأرباب العمل، ومن تنعتهم ب”المرشحين لتسيير شؤون البلاد” أو “القوى الحية”، مثل برناج “ميبي” (ميدل إيست برتنارشيب إنيشيتيف) الذي قام بتمويل 35 دورة تدريبية في تونس عام 2008…كما استضافت وزارة الخارجية الأمريكية 40 امرأة من ما تسميه أمريكا “الشرق الأوسط وشمال افريقيا” للإقامة في أمريكا، لمدة 15 يوم “لمعاينة سير الديمقراطية الأمريكية”، ومتابعة الحملة الإنتخابية الرئاسية، ومن المدعوات كانت الأمينة العامة “للحزب الديمقراطي التقدمي” في تونس، وهناك عدد من “ناشطي حقوق الإنسان” ومن قادة الأحزاب التونسية الذين شاركوا في دورات عديدة في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها (بتمويل مشبوه)، ويخفون ذلك، ولا يقومون أبدا بالإعلام عن ما فعلوه، ولا نعرف من موَّل مصاريف الإقامة والسفر…إن قبول المشاركة في هذه الدورات والندوات، والإعتماد على التمويل الذي تقدمه دول أو مؤسسات تابعة لأحزاب سياسية (ألمانيا، أمريكا، أوروبا الشمالية)، أو الإتحاد الأوروبي، جاء نتيجة اليأس من إمكانية التغيير، بالإعتماد على القوى الذاتية، وهو أمر خطير، لأنه يؤدي إلى الإلتجاء إلى قوى رأسمالية، تدافع عن مصالحها، وما تمويلها لهم إلا شكل من أشكال الإستثمار، وليس هبة أو منّة، “لا تريد من ورائها جزاءً ولا شكورا”. والتغيير لا يتم بأي شكل، ولا يمكن أن يتم بالإعتماد على من يستغل ويستعمر الشعوب… هل يعقل أن تكون الولايات المتحدة استعمارية في العراق وأفغانستان وفلسطين، وتقدمية أو مناصرة لحقوق الشعوب، في تونس وسوريا وإيران وكوبا الخ؟ هذه ثغرات يستغلها الحزب الحاكم والسلطة في تونس، ويؤسسون عليها دعايتهم، وإن كانوا غير مؤهلين لنقد غيرهم في هذا المجال… إننا نقوم بنقد المنظمات المقرَّبة من الحزب الحاكم والسلطة، ونتهمها (على حق) بالتمعش من أموال البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية، ولكننا نلاحظ أن بعض المعارضة، والمنظمات الحقوقية، وبعض الرموز والأفراد يسيرون على خطاهم، ويتمولون من نفس المصادر، ولهم نفس الصداقات والعلاقات الخ.

إن التمعش من “المنظمات غير الحكومية” ومن “المنح الدراسية والبحثية”، وكثرة الإحتكاك بالدبلوماسيين، والبرلمانيين الأمريكيين والأوروبيين، أدى بالبعض إلى كتابة مقالات مطولة، تمجيدا للثورات المضادة في أوكرانيا وجورجيا، وساند أغلبهم اتفاقيات أوسلو، والتدخل الأطلسي لتفكيك يوغسلافيا الخ… وهذا هو الإستثمار السياسي الذي ترمي له الدول والمؤسسات المانحة، فالمعارضون المحليون يستنجدون بالإتحاد الأوروبي وبالولايات المتحدة، لردع النظام التونسي أو المصري أو السوري، ومعاتبته لكي يطلق الحريات… وينسون أو يتناسون أن المستنجد به هو الذي يساند الكيان الصهيوني ويحتل العراق وأفغانستان، وربما لاحقا، السودان واليمن، ويمتص دماء الفقراء بواسطة صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك العالمي، وينصب ويساند كل دكتاتوريي العالم…

إن التضامن الدولي، غير المشروط، مطلوب من الأصدقاء والرفاق، ولا يمكن أن يوضع في خانة العمالة أو الخيانة، لكن ذلك يختلف عن وضع من ” يستجير من الرمضاء بالنار” أو الإلتجاء إلى القوى الإمبريالية، وهذه ممارسة جعلت بعض المواطنين العاديين ييأسون من التغيير بالإعتماد على القوى الذاتية للمجتمع، وبعض المعارضة، في تونس وغيرها أصبحت تعلن بصراحة “إن الأنظمة تخاف من أمريكا، لذلك يجب الالتجاء إليها لتؤدب حكامنا”، واضعين أمريكا في موقع الحكم، وليس في موقع الخصم، لنا ولبقية شعوب العالم، فأين نحن من إرادة التغيير بالمشاركة الشعبية، من أجل العدالة المساواة؟…

Topic
Archive