فلسطينيّا، ثمّة فصائل لها (تاريخ)، ومحطات بارزة، ومنها: الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، التي غادرت ـ ويا ليتها لم تفعل ـ فكر وخطاب حركة القوميين العرب، و..ركضت وراء شعارات يسارية ثبت أنها مرتجلة، وبحسب مصطلحات الرفيق لينين: طفوليّة.
عندما تذكر الجبهة الشعبيّة فإن الجماهير الفلسطينيّة بخّاصة، والعربيّة بعّامة، تتذكّر فورا اسما كبيرا، قائدا على المستوى القومي، هو الدكتور جورج حبش، ورفاقا كبارا بنوا معه وأعلوا مداميك الجبهة: أبوماهر اليماني المناضل العمّالي قبل عام الـ48، رفيق القائد العمّالي النقابي الشهيد سامي طه، والقائد الصلب أبوعلي مصطفى، والقيادي صلاح صلاح، و..لا يغيب عن البال (المعلّم) غسّان كنفاني، ومئات الكوادر والقادة، شهداء، وأسرى، ومناضلون أحياء يمتازون بالصلابة والاستقامة.
الجبهة في فترة ما بعد أوسلو، أعادت عشرات الكوادر إلى غزّة وأريحا، وشاركت في السلطة، وواصلت تقديم الغطاء في اللجنة التنفيذيّة لنهج أوسلو، بل وبرز من بين صفوفها من تماهوا في السلطة، فما عاد يمكن تمييزهم عن رموزها، لا سلوكا، ولا خطابا سياسيّا، وبحجّة الدفاع عن منظمة التحرير الفلسطينيّة، رغم التخلّي عن الميثاق، وتدمير مؤسسات المنظمة، وتزويرها.
اقترفت قيادات الجبهة في (مؤسسات المنظمة) أخطاء فادحة، بتغطيتها عمليات تزوير، كما حدث عند استكمال أعضاء اللجنة التنفيذيّة، وهو ما شكّل صدمة لمحبي الجبهة، وما فاقم الخلافات، والتباينات الداخلية، ولولا حرص مناضلين معروفين على وحدة الجبهة، لأدت الخلافات لتمزيق وحدة الجبهة، خّاصة وقد غاب القائد الكبير أبوعلي مصطفى، واختطف الأمين العام (أحمد سعدات)، وزّج به في السجن.
يبدو أن حجم التزوير في اتخاذ القرارات في اللجنة التنفيذيّة، قد أحرج الجبهة، ودفع بالمحافظين على خطها، وتراثها، إلى طرح إعادة النظر في مسار الجبهة ودورها، على ضوء خيار سلطة أوسلو، وتفرّدها، وإدارتها الظهر للشعب الفلسطيني، وتيه وضياع قواعد الجبهة التي لم يعد لها (دور)، بل وصارت تابعا فقد هويته.
ليس سرّا أن قواعد الجبهة، وأطرها في الخارج وفي الداخل، لا مصلحة لها في ( مسايرة) سلطة أوسلو ـ من غير الخافي أن هناك نفرا لهم مصالح مادية ووجاهية تقيدهم ـ وهذه تدعو إلى وقفة حازمة تقرأ مسيرة الجبهة في سنوات ما بعد أوسلو، تعيد النظر وتحدد من جديد الوجهة التي هي في جوهرها تلبية لخيارات الجماهير الفلسطينيّة، خاصة وقد بات جليا بأنه لا يمكن تحقيق السلام مع الكيان الصهيوني، وهو ما أثبتته مسيرة أوسلو، وفي كل أدوار الحكومات الصهيونيّة المتعاقبة، وأن هذه المسيرة خسّرت الشعب الفلسطيني أرضه، ووحدته الوطنيّة، وتواصله الجماهيري العربي، و..مع ذلك فها هي نفس القيادة تمضي للمفاوضات المباشرة، وهو القرار الذي لم يحظ بموافقة اللجنة التنفيذيّة للمنظمة، لغياب نصف الأعضاء، ولرفض عدد من الأعضاء الحاضرين لهذه المفاوضات، تحديدا ممثلو: الشعبيّة، الفلسطينيّة، الديمقراطيّة، حزب الشعب.
من برروا التبعية للسلطة، وأشهروا شعار الحفاظ على المنظمة، وأنها الممثل الشرعي والوحيد، وخلطوا بين المنظمة والسلطة، ولم يبيّنوا عن أي منظمة يتحدثون، يبدو أنهم بدأوا يلتفون ليستبقوا دعوة قواعد وقيادات كثيرة في الجبهة، لتحديد خيار وطني واضح يؤسس لاستعادة الجبهة لدور قيادي، يمكن أن يمهّد لحالة نهوض لطرف فلسطيني مغاير للطرفين السلطويين في الضفّة وغزّة، طرف يمضي بخيار المقاومة الذي لا خيار سواه، والذي مهما كانت تكلفته، فإنه الخيار الوحيد الذي سيوقف حالة الانحدار، وينقذ قضيتنا من مخاطر المفاوضات المباشرة التي وفقا لتصريحات نتنياهو يراد لها أن تكون استسلاما فلسطينيّا شاملا داخل كل فلسطين، وخارجها، بالمباركة بيهودية الدولة، والقبول بوقوف جيش العدو على ضفة النهر الغربيّة، والرضى الفلسطيني بمعازل، برعاية أمريكيّة، وتشجيع من بعض نظم الحكم العربيّة!
الشعبيّة عندما تختار لن تكون وحدها، فهناك قوى فلسطينيّة جادة في خيار المقاومة، تتقدمها الجهاد التي يُضيّق عليها في غزّة، وتطارد في الضفّة، ومع ذلك فهي ثابتة على خيارها، لم تغوها السلطة وامتيازاتها المريحة.
إن بروز تيّار مقاوم يتجاوز سلطتي رام الله وغزّة، سيستقطب فصائل وقوى، وشخصيات وطنيّة فكرية ونضالية، وسيؤسس لقوّة ميدانية تتجاوز الطرفين المعوقين، تحديدا الطرف المتساوق مع الأوامر والضغوطات الأمريكيّة، والطرف المهيمن على قطاع غزّة والمشغول بمطاردة كل من لا ينصاع لأوامره في القطاع، من الجهاد، إلى الشعبيّة، إلى حزب التحرير، ناهيك عن أبناء فتح.. والذي يعلن في هذا الوقت تحديدا عن حملة مطاردة لمن يملكون سلاحا غير شرعي!.
ما هو السلاح الشرعي، وما شرعيته؟! وبماذا تختلف هذه الحملة عن حملة السلطة المستمرّة، ومطاردات جنرالات أمن دايتون لكّل من يملكون سلاحا مقاوما يستفّز مهماتهم القمعيّة؟!
من يلتفون على الغليان الداخلي في الشعبيّة، بدأوا في الترويج لخيار (تعليق) عضوية الشعبيّة في اللجنة التنفيذيّة!
طرح التفافي، انتهازي، سيفرغ تحرّك القواعد، ويعلّق عمليا امتلاك الجبهة لدور حادت عنه، وآن لها أن تستعيده، لا بالمزاودة، ولكن بطرح برنامج وطني جاذب، يبنى عليه، وحوله، وهو ما لن يبقيها وحدها عارية في مرمى أنياب الخصوم والأعداء.
لقد جرّبت الشعبيّة من قبل خيار تعليق العضوية، فكان أن خسرت، وعادت إلى اللجنة التنفيذّية دون أن تحقق شيئا سوى الغياب.
خيار (التعليق) سيريح السلطة، ولن يحرجها، ولن يضر بنهجها، بل سيبدي الجبهة وكأنها حالة ( مزاجيّة)، وليست صاحبة تاريخ وتراث، يقرأ التحولات جيدا، ويختار دون النظر والخشية من الخسائر الخاصة.
تعرف الجبهة أن قيادة أوسلو لا تقيم وزنا للجنة التنفيذيّة، ولا للمجلس الوطني، وحتى للجنة المركزية لحركة فتح التي علمنا أن عددا غير قليل في صفوفها يرفض الذهاب للمفاوضات المباشرة، مع رفض شبه كامل لقواعد الحركة في الداخل والشتات. ألا يفترض بالجبهة أن تقرأ حالة الرفض الفلسطينيّة لما تقترفه سلطة لا تحظى بتأييد أي طرف؟!
إذا لم تعد الجبهة إلى منطلقاتها، وما هو مشرق في تاريخها، وما تركه القائد الكبير جورج حبش، ورفاقه الكبار قواعد وقيادات، فإنها ستخسر، فالموقف المائع الانتهازي سيفيد من ترهلوا، ومن باتوا أسرى امتيازاتهم، وعجزهم.
دور الجبهة القيادي لا يستعاد بالحرد، ولكنه يستعاد بالانحياز لما يريده الشعب الفلسطيني، لما ينقذ القضية الفلسطينيّة.
الأحزاب، والمنظمات الثوريّة، والقوى السياسيّة، لم تنجح مؤامرات تدميرها من خارجها، ولكنها نجحت غالبا، تحت عناوين الحرص، والعقلانيّة، ومصلحة الجبهة، أو الحزب.
في الجبهة مخاض، وفي الساحة الفلسطينيّة مخاض عظيم، نراه، ونلمسه، ونسمع هديره. وكأصدقاء حرصاء على الجبهة ننصح بأن تحدد دورها، لا أن تحرد من سلطة لا تأبه للحردانين، فالحرد ليس سياسة، إنه (دلع)، والدلع لقوى يفترض أنها ( ثورية) غير لائق، فهو لائق فقط بين الأحبّة، والعشّاق، والأزواج، أمّا العلاقة بالسلطة، أي سلطة، فلا تكون إلاّ صراعا، لا حردا، ولا دلعا!.