ذهب للتفاوض وستنجح المفاوضات
عادل سمارة ـ رام الله المحتلة
كي لا نفقد اللحظة ونفتقد من ثمَّ للتماسك في وجه الانهيار الشامل لا مناص من تجاوز هذه المرحلة والقطع معها، مع مقدساتها، مع شخوصها مع الطبقات التي شكَّلتها ومع القوى الأجنبية التي صاغتها ومولتها سواء الكيان الصهيوني الإشكنازي أو دول المركز وخاصة الولايات المتحدة وبتخصيص أكثر أنظمة القطريات العربية التي شاركت ومولت بناء الحالة هذه ولا تزال.
علينا خلق مرحلة أخرى وتحليل آخر وأهداف أخرى. لم يعد في المرحلة الحالية ما يمكن لملمته أو ترقيعه. وهذا الحديث موجه للجيل الشاب نساء ورجالاً، أن استثمروا في الأرض العذراء وليس في الأرض التي أهلكها حرث معادٍ أو حرث مساوم.
لا بد من القطع مع من صنَّع الدنس في هذه الأرض ومن تدنَّس بمقومات المرحلة سواء بالقصد أو المصلحة أو حتى السذاجة، وسواء كان تحالفات طبقية، طبقات فئات وحتى أفراداً. واوضح مقوماتها التطبيع الذي غدا نهج حياة في الاقتصاد والسياسة والثفافة والمتعة وحتى الحب. والتطبيع ببساطة إسقاط لحق العودة هكذا دون مواربة، فكلُّ مُطبِّعٍ يُسقط من هذا الحق بحجمه وقامته وبالطبع يعرف ما فعل، وإن تلطى بهبوط السقف وكثرة المطبعين، أو تشجيع شركائه بالمكابرة أو سقوط قشرة الحياء الوطني. هو الاقتصاد السياسي للتطبيع، بل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية للتطبيع!
تمظهرت فعالية هذه التشكيلة على النحو التالي:
تقويض البنية الإنتاجية الذي بدأ مع الاحتلال الثاني (1967) في حقبته الأولى (1967-93) حيث جرت محاصرة مواقع الإنتاج ومصادرة الأراضي وإغلاقها وتركيم بطالة هائلة، وتعميق الاستهلاكية. واستُكمل عبر أوسلو(الحقبة الثانية للاحتلال 1993 وحتى غدٍ) حيث جرى تدريب أكبر عدد من الناس على تلقي/توقع تلقي السيولة المالية (كل حسب طبقته) دون ان يعمل لا عمل إنتاجي ولا عمل يساعد على الإنتاج) وبالطبع أن لا يناضل.
ورغم أن الحقبة الثانية امتداداً طبيعيا للأولى إلا أنها جاءت اشد وطئاً، وأكثر خطراً وأسهل اختراقا للمجتمع. لقد خُلق عبر الحقبتين مجتمعا من المتقاعدين وطنياً وإنتاجيا أي في مستويين:
الكفاح الوطني الذي وصل الوضع به إلى قتل المقاوِمين بأيدي فلسطينية علناً.
وفي مستوى عدم الإنتاج للمعيشة (إنتاج القيمة الإستعمالية) ولا للسوق القيمة التبادلية.
ولترسيخ هذا الفتك بالمجتمع جرى التعهد بتغطية حاجاته بتسييل أموال فاسدة ومسمومة[1] في شرايين المجتمع تقدمت بها دول المركز، وأدواتها/وكيلاتها من الحكومات غير الحكومية، ومنظمات الأنجزة وجمعيات خيرية وغير خيرية تكاثرت كالفطر.
هناك بالطبع استثناءات محدودة لم تُطالها لا يد الفساد ولا هي رغبت عن العيش المستقل، وهناك قوى بقيت على حالها النضالي، ولكنها غدت اليوم صيد طراد مقدس على ايدي مناضلين قدامى ومن حلف الناتو ومن الولايات المتحدة فما بالك بالكيان. كيف تمكن هؤلاء من عملية الخليل الأخيرة ومن عملية رام الله؟ هذا يعني ان حرب الغوار ما زالت ممكنة، ولكن دونها حزُّ الحلاقيم!.
هذا التشوه اتضح في طبيعة المبنى الاجتماعي للتراكم Social Structure of Accumulation في الأرض المحتلة. ولكي لا نضل التحليل ونخلط هذا التراكم بمفهومه الحقيقي في المجتمعات المنتجة: هو هنا تراكم ناجم عن القبض النقدي وليس عن الإنتاج الناتج عن عمل/تشغيل/استغلال قوة العمل واستثمار سيالة راس المال! أليس هذا عجيباً!، بمعنى خلق نخب طبقية اقامت سلاما اقتصاديا مع الاحتلال (سلام راس المال ـ ابدع تجلياته العلنية تشكيل مجلس أعمال إسرائيلي فلسطيني منذ بضع سنوات). ولفرط التشوه فإن ممثلي الفلسطينيين في هذا المجلس قادوا الاعتراض على المفاوضات المباشرة. هم يمارسون التطبيع الاقتصادي يما يؤبد التبعية الاقتصادية لاقتصاد الاحتلال وللإحتلال، ويهتفون ضد المفاوضات المباشرة، ويقبلهم الشارع في الحالتين النقيضتين، فلماذا لا يُمعن الصغار في كتابة التقارير لمخابرات الدول!
هذا بالضيط ما يردده الآن نتنياهو، ولكن تأسيسه كان منذ موشيه ديان (1967). هذا المبنى الاجتماعي للتراكم أهال التراب على المبنى السابق له، فحلت شريحة كمبرادور التسوية محل شريحة كمبرادور نمت في الحقبة الأولى للاحتلال 1967-1993، وهي التي ورثت الشريحة التي كانت في عهد الحكم الأردني. طبعا هذا لا يعني ان بعضها واصل الدور والعلاقة.
وعُهد إداريا للجهاز البيروقراطي لمنظمة التحرير الذي أُعطي سلطة إدارية دون تحرير، ولأنها دون تحرير ظلت بلا سيادة[2]، سلطة على أراضي الحكم الذاتي ليخلق “دولة” أوسلو- ستان، وتلقى من الأموال ما سمح له بالفساد والإفساد والتفريط. جرى صكُّ هذه الأموال كي تخلق الفساد وعدم الإنتاج والتبعية الفردية على اساس يومي.
نمت على هامش هذا شرائح اجتماعية و/أو تحولت بسبب هذا شرائح اجتماعية تحولت من:
· من الإنتاج في الزراعة وبعض المشاغل إلى الوظائف في سلطة الحكم الذاتي، شراء الخبز بفلوس المانحين بدل إنتاج الحبوب.
· من مقاتلين في جنوب لبنان إلى شرطة في مدن الضفة تقلصت احيانا إلى شرطة في رام الله، هذا حسب السماح الصهيوني.
· من سجناء خلال الحقبة الاحتلالية الأولى إلى مدراء ووزراء ومتقاعدي نضال يأخذون رواتب عن نضالهم مضمونه هذا راتبك وتفضل بالسكوت.
· من مثقفين يهتفون للمقاومة وللماركسية الشاحبة قبل 1993 إلى منظِّرين للتسوية والسلام وجمال الاحتلال الذي لم يدركه سوى أصحاب الذوق السليم وأبناء بيكاسو وشكسبير وليس المتنبي، وإلى كتبة تقارير للدول المانحة من المركز وأدواته الصغيرة (النرويج والسويد والدنمارك)[3].
· من حركة طلابية قارعت جيش الاحتلال رغم ارتعاد إداراتها وخوفها على التمويل الذي وصل إلى بيع الدوائر للدول الغربية بيعاً وربما تمليكاً كما (الأقنان والأرض والدواب في الإقطاع). الحركة الطلابية التي صفعت وطردت وزير خارجية فرنسا تحولت إلى شتات طلابي مخترق بأنواع المخابرات المحلية والأجنبية، شتات باهت يقبض مقابل أن يعلق ملصقا عليه صورة او شعار تنظيم.
· من حركة عمالية جرى خصيها بأنها (أول من أيد م ت ف كممثل شرعي للشعب الفلسطيني) إلى بيت خيري يعطي العمال العاطلين مصروف جيب يعلم الله من اين أتى ولتبقى قياداتها مبايعةً إلى الأبد، وربما يقوموا بالتوريث كملوك ورؤساء العرب.
· من حركة نسائية تعمل نضاليا ضمن الحركة الوطنية إلى نسويات يسار ويمين تتحدث يساراً وتوفر ابحاثاً سرية وعلنية للمركز وعملائه وتعتبر اي نقد طعناً في انوثة المرأة.
أليس من الطبيعي أن لا تتمكن هذه البنية من منع سلطة الحكم الذاتي من التفاوض المباشر وغير المباشر؟ فهذه البنية معتمدة على هذه السلطة وتلك السلطة معتمدة على من قرروا إجراء المفاوضات وإنجاحها على نفس نهج أوسلو.
إن كان حديثنا هذا افتئاتاً، فلنسمع ما يقولون بل لنرَ ما سيفعلوا؟ هل سيوقفوا عن الذهاب إلى مكاتبهم ووظائفهم؟
القُطريات العربية…حاضنة مفاوضات
ليست هذه المرحلة مجرد سقطة سياسية أو دبلوماسية يمكن تجاوزها بخفة ومهارة الحُواة. هذه المرحلة مشروع متكامل يقوم في حقيقة الأمر على دعامتين هما من القوة بحيث لا يقتلعهما سوى النسف والتدمير ليحل محلهما البناء والتجذير:
المقوِّم الأول: بناء والحفاظ على تشكيلة اجتماعية اقتصادية في الوطن العربي عالقة بين قطبي التشكيلات فلا هي ترسملت ولا غدت اشتراكية. هي تشكيلة تابعة غير تنموية مستوردة ومستهلكة، تُهمِّش المنتجين، وتربط قوة العمل بالسلطة التي ترش عليهم وظائف تجعل حياتهم متعلقة بها. تشكيلة مفتوحة الأبواب للغزاة من المستثمِرين المستعمِرين، لينهبوا الثروات قبل أن يحين موتها بنضوبها. تشكيلة من الخطورة بمكان بحيث يمكن أن يغيب منها…الوطن!
والمقوم الثاني: هو القوى السياسية الرسمية والحزبية، وهي قوى وليدة التشكيلة نفسها، قوى مُغيَّبة عقيدياً، قوى تجهل الإنتاج والتنمية وتتعلق بالاستهلاكية، قوى من يسارها إلى يمينها متخارجة، هذا تابع للغرب العدو وذاك تابع للشرق الهش عقيدياً وتنمويا وإخلاقيا..
إذا كان لا بد من الخروج على كل هذا، فلا بد من نسف البرجين!
لا بد من القطع مع الدولة القطرية، مع الطبقات الحاكمة في القُطريات. من أراد وطناً عربيا للعرب وأهله من غير العرب عليه تفكيك مفاصل هذه الدولة/السلطة القطرية بشرطتها ومخابراتها وجيشها ومثقفيها وعسسها ومختلف مؤسساتها وقوانينها وارتباطاتها.
لم يعد كاف القول أن الدولة القطرية بقيادة البرجوازية استنفذت مرحلتها. هذا القول يعني أنها كانت إلى حدِّ ما مؤهلة لحمل المرحلة لما هو أعلى منها. دولة طرأت على حقبة زمنية واغتصبتها، ومنذ البدء أخذت تشدَّ إلى الخلف اجتماعيا وإنتاجيا، وإلى التخارج في علاقاتها بالأجنبي المسيطر.
بدأت الدولة القطرية بارتباط مع الكيان الصهيوني، بنفس الحبل السُرِّي الذي جدله الاستعمار، فأنتج سايكس- بيكو 1916 ووعد بلفور 1917، واتفاق طنجة 1956. من هنا نلحظ الترابط العضوي بين القطريات والكيان الصهيوني ترابط المنشأ الواحد لأن المُنشأ واحداً.
لم يقتصر الأمر على هذا، بل شاركت الدولة القطرية في خلق الكيان الصهيوني سواء بالسماح بتدفق اليهود العرب إلى الكيان الصهيوني، أو بعدم القطع مع المركز الذي خلق هذا الكيان، فجاءت المقاطعة العربية خجولة وضعيفة. وبدل مناهضة الاستعمار قامت الدولة القطرية بالتطبيع مع الاستعمار فالإمبريالية، كيف لا والاستعمار وَلِيَّ وجودها.
واليوم تُكمل الدولة القطرية “حجة الوداع” للكيان الصهيوني. ها هي تقدم للكيان الصهيوني اعترافاً بدولة يهودية، وتبارك لفلسطينيي التسوية التفاوض اللاتفاوضي.
موقف مثير حقاً، يحتاج إلى مخرج فذ ليقدمه:
· تقول الأنظمة القطرية نرضى للفلسطينيين ما يرضوه لأنفسهم!
· وفلسطينيو التسوية يقولون نحتكم إلى “حكمة” الأنطمة العربية!
وهكذا أعاد التاريخ القريب نفسه، فمن شارك في أوسلو يشارك اليوم في حلقة أوسلو الجديدة.
شرط إسقاط التفاوض رفض أوسلو
حين عُقد اتفاق أوسلو، وتولدت عنه اوسلو- ستان، وكان أُحيط بمشاركة ومباركة الرسمي العربي، تسابق المعارضون على إعلان قرار رفض وتصفية هذا الاتفاق.
تحدثت حينها إلى أحد قياديي اليسار الذي اصبح من أعمدة التطبيع وكوبنهاجن وغيرها حيث يزور أوسلو كما يزور رام الله، ولا شك هو يقرأني ويسمعني الآن وقلت:” آمل أن لا تقولوا سوف نُسقط أوسلو، بل ” نحن ضد اوسلو” لأن التعهد بإسقاط اوسلو اكبر منا جميعاً وعدم تنفيذ التعهد يقود إلى الإحباط وتسويق الاتفاق والتطبيع ولو كان بوسعكم إسقاطه لحُلتم دون عقده”.
مرت اشهر ضئيلة، وإذا بقيادات اليسار تتدفق إلى الأرض المحتلة كقيادات اليمين. فتطورت ظاهرة سياسية لا تخجل من نفسها: رفض أوسلو بخطاب سياسي ركيك وممارسة قبول اوسلو على الأرض سواء من حيث المجيىء الفردي عبر الجسور المحتلة وشغل الوظائف، وتحسين الرتب والرواتب، والمنح والفساد ودرجات التقاعد والتنظير والتحليل لأوسلو ومستقبله وفوائده، وقراءة أوسلو بلغة الماركسية والأدب، وحتى الفقه. ليتضح في النهاية أن نضال هذه المرحلة كان مثابة شركة مساهمة لكل حصته اثناء شغلها وحصته حين تصفيتها، والعاقبة للمتعففين.
بقي أوسلو، وانتقل من طور إلى طور، وخاصة طور ما يسمى “الانتخابات” و”الديمقراطية” أي الطور الذي احتوى معظم القوى الفلسطينية في داخله، وها هو يدخل طور “الدولة القطرية لأقل أجزاء من الوطن، 1 بالمئة مثلاً”.
لا مساحة هنا لتعداد الأسباب “الوجيهة” بالسالب طبعاً التي دفعت سلطة الحكم الذاتي للتفاوض هذه المرة حتى لو توقعت نتائج 1 في المئة أي لا شيء، فيعضها ذُكر أعلاه!.
ما أود المرور عليه باختصار هو:
أن الأطراف التي أنشأت أوسلو هي صاحبة القرار وليس الذين اشتروا اوسلو. وهذه الأطراف هي التي قررت أن الوقت قد حان للانتقال إلى طور “الدولة” بعد طور الحكم الذاتي. والطور الجديد يتم بإخراج يبدو متقنا وعاليا وإن كان جوهرياً مفرغاً تماماً. ولكن لغة او خطاب الدبلوماسية هو في الأساس أكذب ألوان اللغة واكثرها مواصلة للكذب دون رجفة عين وليس ذلك لعدم الفهم أو البلاهة لا سمح الله، بل لأن وراء ذلك قوة الدفع والقمع.
ستنجح المفاوضات لأنها لا تتعلق بالأرض، ولا بحق العودة واللاجئين بالطبع، ولا باقتلاع المستوطنات، ولا حتى بالقدس. سوف تُرحَّل جميع هذه القضايا بعيداً إلى المواقع التي رُحِّل إليها اللاجئون. وترحيل القضايا هو ابتكار دبلوماسية الرأسمالية الأميركية.
ستنجح المفاوضات لأنها جوهريا تثبيت ما هو على الأرض الآن. ولا أقصد هنا تغيير تسمية الحكم الذاتي بالدولة، فهذا لا شيىء. ما هو ثابت هنا هو التطبيع، بمعنى تواصل/تكريس التطبيع وصولا إلى اللاعودة في مستويات التطبيع مع الكيان وعلى رأسها التطبيع الأمني، ومن تمفصلاتها التطبيع سياسيا واقتصاديا وثقافيا وحتى اجتماعياً، وهذا يعني لا انفصال بين جزئي فلسطين المحتلين.
ستنجح المفاوضات لأن معارضتها ليست معارضة شعبية قائمة على:
· مشروع سياسي وطني شعبي ضد التطبيع بأنواعه.
· ليست معارضة تعلنها تنظيمات منسجمة داخليا متبنية لاستراتيجية رافضة (سياسية ومسلحة وثقافية ونظرية).
· ليست معارضة تؤمن ولا عملت على الاعتماد على الذات اقتصاديا بل معيشياً، فاقتاتت على تحويلات المانحين والأنجزة، إلى درجة صار معها الارتباط الوظيفي لكتابة تقارير للمانحين مدعاة للفخر. وحتى لو رغب هؤلاء اليوم في بناء اقتصاد الحزب أو الطبقة، لم تعد لديهم الدافعية الثورية التي كانت! فكما تقول التنمية دوماً القوة في الإنسان لا في سيولة راس مال.
· سوف تنجح المفاوضات وتولد دولة هذه المرة على مساحة اقل من الحكم الذاتي، ولأن من يفاوضون قد قطعوا بأنفسهم اية طريق أخرى سوى طريق توكيل المقاول الأميركي الذي هنا تحديداً يعمل بالعقل الصهيوني والمصالح الصهيونية.
لو كان لهذه المفاوضات أن تفشل لوقف الذين تظاهروا قبل ايام، لوقفوا ضد أوسلو قبل اوسلو، ولتعففوا عن المال الحرام رواتباً وتقاعداً، ولتمسكوا بالمبدأ والفكر ماركسيا كان أو قوميا أو دينيا، اي لما كانت القدرة الثقافية قيمة تبادلية لمن يدفع[4]. ولتعففوا عن مال الفساد، لكنهم كانوا قد كرهوا الفقر وملُّوا التقشف، فكان أن…الخ.
لا يليق بما هو آتٍ كل من مضى، ومن الجريمة أن يُعاد إلى سِدَّة التاريخ اصنام خلَّفها التاريخ ورائه. سيلفظها إذا حاولتم تنصيبها مجدداً وسيلعنكم ايضاً. لا مكان في الآتي لمن جعل الشهر شهرين، والإسم ثلاثة، والنضال رشوة، والتقاعد كأساً من دم الوطن والبحث ارتزاقا. لا مكان لمن تدحرجت قاماتهم ومواقفهم، ولا لمن ارتخوا خشية إملاق أو فقر.
عذرية الأمة كعذرية المرأة، هكذا صاغها ماركس الذي رفض حرية الحب لصالح الحب الحر. والعذرية السياسة والوطنية أعلى من العذرية الفردية، هي للرجال كما للنساء، فطوبى لمن صمدوا، وطوبى لمن رفضوا، وطوبى لمن جاعوا وما ركعوا. طوبى لمن اصروا على البقاء شرفاء في عين اللحظة، وسحقاً لمن تعروا من أجل بعض المال وبعض المكان. لهم المكان ولنا المكانة، لهم سقط المتاع والافتخار بالتطبيع ولنا قلب الأم فلسطين. نعم لنا اليوم القمعً ولكن لهم العار، ولنا الغد وهم الأمس.
لكل هذا ستمر المفاوضات، بنفس الحمْلِ، وسيهتفون للإجهاض الضخم. ونحتفي برموش العين بالوليد، فالإجهاض هو الأمس والوليد هو الغد[5].
[1] لم يكن إغداق هذه الموال عبثاً على سلطة الحكم الذاتي ومنظمات الأنجزة ومؤسسات المجتمع كالجامعات والجمعيات والنقابات والأحزاب…أي ما تسمى منظمات المجتمع المدني. كان هذا ولا يزال استثمارا استراتيجيا تماماً كما كان ولا يزال الاستثمار في إقامة الكيان الصهيوني. استثمار لا يُؤتي ربحا يغطي النفقات، ولكنه يوفر أرباحا خيالية هي شطب حق العودة وتمرير المشروع الأميركي/الغربي للوطن العربي، فهل هناك أجدى من هذا المشروع؟