إثر هزيمته الداخلية سواء في معالجة الأزمة الإقتصادية حيث بقيت البطالة المسجلة رسميا عند 10%، وبالتالي في التجديد النصفي للكونجرس حيث تفوق الجمهوريين، اختار أوباما الهجوم في الخارج وذلك بمنطق دولاني مألوف وإمبريالي بشكل خاص. لذا قال للقادة الآسيويين الذين يشكلون تجمع سوق مفتوح (سوق آسيا والباسيفيكي- الهادىء) بحجم نصف سوق هذا الكوكب:
“…أميركا هنا لتبقى…هذه منطقة يجب ان ُنصدِّر لها أكثر من اية منطقة في العالم بما هي الأكثر نموا… لقد استثمرنا نحن في نجاحكم هذا… أدى التصدير من هذه البلدان لأميركا إلى تقوية اقتصاداتها لسنوات، لكنه خلق فجوات تجارية واسعة للولايات المتحدة لأن المستهلك الأميركي أصبح متعلق جدا بالسلع الأجنبية والخدمات بأكثر مما يبيعوا في الخارج؟ في هذه المنطقة زادت صادرراتنا ب 60 بالمئة في الخمس سنوات الماضية لكن حصتنا تناقصت لصالح منافسينا.”
إلى جانب هجوم الخطاب، كان هناك الهجوم الاقتصادي بتأكيد قيام البنك الفدرالي الأميركي بشراء سندات بقيمة 600 بليون دولاروضخها في السوق الأميركي، وهذه الدفعة الثالثة التي قامت بها أميركا خلال العامين الماضيين، كل ذلك بهدف :
تحريك الاستهلاك الداخلي بتوفير سيولة بيد المستهلك
تخفيض أكثر للدولار كي ينافس التخفيض الصيني
· تشجيع الاستيراد الأجنبي من الولايات المتحدة
كما ترافق مع هذا مواصلة الهجوم على الصين التي لم ترفع قيمة عملتها معاندة لذلك الهجوم.
كما جاء هجوم أوباما هذا إثر فشله في قمة العشرين في سيؤول في الحصول على إجماع للوقوف ضد الصين، وحتى فشله في التوصل إلى اتفاق مع كوريا الجنوبية، وهي من دول التبعية والدوران في الفلك الأميركي بل من محميات الولايات المتحدة (2) ؟
السياسة لم تغب
ولكن، إلى جانب التسخين في حرب العملات، التي بانت عن حرب اقتصادية عبر التجارة، كانت السياسة هناك تنتظر دورها أو ترسل إشارات تشجيعية لغطرسة أوباما. فمنذ ثلاثة عقود والمؤشرات الاقتصادية تؤكد تراجع القدرة الاقتصادية المدنية للولايات المتحدة وتناقص حصتها في الإنتاج العالمي لصالح دول أخرى في المركز وخاصة ألمانيا واليابان وبروز الدول الصاعدة التي أخذت حصة من هذا السوق، وهي التطورات التي أوصلت السوق العالمية إلى أزمة في جانب العرض. تطورات لم تجد أميركا بيدها اية حيلة لمنعها، وبالطبع حاولت!
إنما، إذا كان هذا حال أميركا الاقتصادي، فعلام يقول أوباما لهؤلاء القوم: “أميركا هنا لتبقى!”؟ نعم هناك السياسة، فاليابان بشكل خاص قلقة من الصين سياسيا وعسكرياً (وهي بالمناسة قلقة من روسيا كذلك)، وهذا ما يجعل الولايات المتحدة ضرورية بما هي الأقوى عسكرياً، وهذا ما يفتح على دور للانتاج العسكري الأميركي الذي عليه تعتمد الولايات المتحدة في كل من بيع السلاح واحتياج أنظمة كثيرة تابعة ليحميها السلاح الذي تحتكره الولايات المتحدة. وهذا يعني ان العالم ليس في مأمن عن العدوان العسكري من جانب الولايات المتحدة.
الصين وأميركا والعالم… يتبع
لا يخفى أن الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين، صراع السباق على تخفيض قيمة العملة لإغراء المستوردين وحتى المستهلكين المحليين. فالصين تعمل على تواصل تدفق سلعها إلى الولايات المتحدة والأخيرة تحاول تقليص ذلك التدفق لتعالج عجزها تجاه الصين والبالغ 268 بليون دولار. لعل الفارق الأساس بين الاقتصادين أن الاقتصاد الصيني تمكن من إحداث توازن بين سعر عملته وبين الطلب الدولي على منتجاته وبين تنشيط الاستهلاك الداخلي. ولكي لا نقع في محظور تغييب المستوى الطبقي، فإن قوة السلع الصينية ليست في تخفيض قيمة العملة بقدر ما هي اساساً في تخفيض كلفة الإنتاج حيث الأجور الضئيلة هناك وساعات العمل الطويلة والحقوق المعدومة والتي تذكرنا بفترة “التراكم الأولي في المركز الراسمالي الغربي”. بهذا المعنى، فالصراع يدور على اسس راسمالية بين النظامين أكثر مما هو بين نظام اشتراكي وآخر رأسمالي. صحيح أن المعركة الاجتماعية لم تُحسم في الصين بعد، ولكن الاشتباك الحالي رأسماليا بامتياز. نحن إذن أمام سباق ضخ العملات داخل كل بلد منهما في سباق على السوقين المحلي والدولي. فليست الولايات المتحدة وحدها هي التي تضخ سيولة مالية في سوقها، فالصين دأبت على ضخ مئات المليارات من اليوان سنوياً لإبقاء سعره ضعيفاً، ولإبقاء السلع الصينية رخيصة، وهو ما يثير جنون حكومة الولايات المتحدة الأمريكية… وغيرها ممن يغيظه صعود الصين (ومنهم اليابان مثلاً).
وفي هذا الصراع ليست الولايات المتحدة بلا اسلحة، فالعامل السياسي المشار إليه أعلاه له دوره في انفتاح أسواق دول عديدة لمنتجاتها، وكذلك كون الولايات المتحدة متحكمة في أقوى مكونين (ولنقل مجازاَ سلعتين) للاقتصاد العالمي:
الدولار: فما زال الدولار هو العملة الرئيسية في مدفوعات المتاجرة الدولية، وبهذا فكلما هبط سعر صرفه كلما فتح مجالا أكثر لقدرة السلع الأميركية على المنافسة السعرية دوليا حيث تُعرض بأسعار أقل على حساب اسعار سلع دول أخرى. هذا ناهيك عن أن ما تدفعه أميركا كسداد ديون في فترة هبوط سعر صرف الدولار يقضم كثيرا من قيمة ديون بلدان أخرى دائنة لها وخاصة الصين وغيرها. وبهذا تعوض اميركا كثيرا بهذا الدور المضارب عما تفقده جراء ضعف الاقتصاد الحقيقي. هذا ناهيك عن أن مزيدا من التخفيض في سعر صرف الدولار عبر الضخ المالي يزيد من ارتفاع اسعار سلع البلدان التي ترتبط عملاتها بالدولار طالما أنها تُسعَّر بالدولار، وكذلك سلع البلدان الأخرى التي تصبح اسعارها بالنسبة للمستهلك في الولايات المتحدة أعلى من قبل أي تخفيض للدولار، بمعنى أن سلعة كانت تُباع في ألسوق هناك ب 5 دولار تصبح ب 6 دولار مثلا، وهذا يدفع المستهلك إلى المنتجات المحلية ويُبقي الدولار في التداول الداخلي مما يخلق فرص عمل لملايين العاطلين الأميركيين.
والنفط: لا تجني الولايات المتحدة أرباحا هائلة من تسعير النفط بالدولار وحسب، لأن هذا التسعير يسمح للشيك المكتوب بالدولار أن يُستخدم في شراء كثير من السلع دوليا. فالولايات المتحدة تربح لأن شركاتها النفطية هي الأقوى والمسيطر الأكبر على سوق تسويق النفط. وأبعد من هذا، فالولايات المتحدة هي أكبر “منتج” نفطي في العالم سواء بما لديها أو من احتلالها للنفط العربي. بكلمة أخرى، ما تزال أميركا قوية بالبلطجة!
في صراع العملاقينن يصبح على الدول الأخرى (الصاعدة بشكل خاص)، بغض النظر عن حجم اقتصاداتها التنبه لمخاطر هذه الحرب التي ترفع سعر منتجاتتها فتقلل صادراتها مما يدفعها إما إلى تخفيض قيمة عملاتها بالضخ في السوق المحلي أو اللجوء إلى حماية اقتصاداتها بما يقلل تدفق المنتجات الأجنبية، وهذا يعني اتباع العالم سياسة حماية اقتصادية سوف تربك ايضا الاقتصادين الصيني والولايات المتحدة إرباكا ركودياً.
لماذا البُهوت الطبقي؟
والسؤال بعد كل هذا، ما هو السر وراء التناقض المكتمل والذي لم يولد صراعاً؟ هناك أزمة اقتصادية، أي إفقار للطبقات الشعبية وهو إفقار يتقدم باتجاه الطبقة الوسطى إلى جانب سياسات حكومية متخبطة وتشغيل إعلامي مراوغ وموارب وحتى كاذب، ولكن الحراك الشعبي ضعيفاًأ وغير قائم! وحتى ما حصل في فرنسا لم ينته إلى نصر حقيقي رغم أن أهميته تكمن في في حصوله كحد أدنى؟
هل المشكلة إذن هي في هيمنة إيديولوجيا الطبقات السائدة/المالكة على الطبقات الشعبية بمعنى، أن الخوف الآن على “البلد” على الاقتصاد “القومي” وأن مصلحة المجتمع كله كامنة في موقف قومي واحد لمواجهة القوميات الأخرى اقتصاديا…الخ تماشياً مع العبارة الخبيثة: “إما أن ننجو جميعاً أو نغرق جميعاً”.
وهذا الخطاب ليس جديداً، فهو جزء من تاريخ الراسمالية ولا سيما خلال الحرب العالمية الأولى. هل هذا أحد عوامل الحراك الضعيف للطبقة العاملة أو عدم حراكها؟
لا شك أنه جزء. ولكن، علينا أن نتذكر التحليلات التي قُدمت من كثيرين في بداية الأزمة الحالية بمعنى أن البلدان الفقيرة هي التي ستعاني من الأزمة بمعنى تلوِّي الأمعاء أما البلدان الغنية فمن المستبعد بعد أن تصل إلى هناك، ولذا، بالتحديد تميل أنظمة الدول الغنية إلى الاحتراب التجاري كي لا تدخل المعركة إلى اروقتها الطبقية.
ما يمكن أن يسدد التناقض هو ما يمكن أن يحصل في بلدان المحيط التي تخسر بموجب مختلف المعايير التي وردت في هذه المقالة. لكن ما من أحد قام بفعل ما، ربما باستثناء الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا الذي أكد بأن: ” العالم سوف يُفلس إذا قللت الدول الغنية استهلاكها وحاولت التصدير لكي تزدهر. حينها لن يكون هناك من يشتري… والخوف ان تكرر اميركا وبريطانيا التعرفة العالية مثل 1930 مما قاد إلى خنق التجارة”. هذا صحيح، ولكن حتى في هذا الموقف سوف تكسب الولايات المتحدة قليلا ومؤقتاً دون غيرها، لأن بقايا سيولة ما ستكون لدى النفطيين العرب!
إذن على أرضية ضبط الوضع الداخلي، تمترس قادة العشرين كل وراء اقتصاده، لأن الاشتباك خارج الحدود القومية اقل كلفة حتى لو على المدى القصير. بل لذا خرجوا بلا أجندة فما بالك بحلول. وما توافقوا عليه كان في حدود المكياج للنظام العالمي حيث اتفقوا على زيادة دور صندوق النقد الدولي في الرقابة ولا سيما على صناديق التحوُّط، وعلى مبادرات لمحاصرة الفساد مبتعدين عن المشكلة الرئيسة وهي العجز التجاري الأميركي الهائل مع الصين وألمانيا واليابان.
أين يقع العرب في هذه المعمعة؟ ليس هذا بالسؤال الصعب. جزء من النفط بيد أميركا كدولة، وجزء بيد شركاتها، وجزء يُنتج على طريقة المنتج المرجح كما تريده الولايات المتحدة اي يقلل الضخ أو يزيده حسب طلب الولايات المتحدة، لذا يصل سعر برميل النفط اليوم87 دولاراً كي تقبض الولايات المتحدة فلوسا أكثر، هذا ناهيك عن تدفق الصناديق السيادية العربية إلى الولايات المتحدة، وبالطبع فتح الأسواق وشراء الأسلحة من الولايات المتحدة (صفقة سعودية واحدة ب 60 مليار دولار) والإمارات ثالث مستورد للطائرات في العالم…الخ. لا بأس إذن، ولا حيف ولا قلق، حكامنا يقوموا بدورهم. وتكفي نظرة إلى الصورة المرفقة!
الصورة: جنود سعوديون يقفون في جيزان على حدود اليمن وكانت فرنسا قد زودت السعودية بصور قمر صناعي تؤهل قواتها لضرب مواقع المتمردين في اليمن 2009 (عن الواشنطن بوست)
(1) حول الأساس الاقتصادي والطبقي والقومي لحرب العملات، أنظر عادل سمارة في، كنعان الإلكترونية العدد 2398 يوم5 نوفمير 2010) حرب العملات أم اشتباك وتشابك راس المال.
(2) تحتفظ الولايات المتحدة هناك ب 35 ألف جندي على الدوام