أكثر من مبكِّرٍ على تلك الرغبة الجامحة في تحليل بواكير الثورة المدهشة. فبين الحماسة والشوق والفخار والحزن الثوري وبين صلادة الواقع وبطئه مسافة من طراز يصعب اختزاله. سيدي/تي في الوطن المُغتال دون أن يموت، عليك أن تنتظر ولكن عليك أن تساهم.
وأكثر من مبكر كذلك على فرز الغث من السمين فيها، والتقاط من اندسوا بين القوى الشبابية، كالذين بُعثوا إلى الولايات المتحدة بدعوات من NED أو الإدارة الأميركية مباشرة واجتمعوا ليستمعوا إلى ورثة مترنيخ وكيسنجر- السيدة كلينتون والسيد فلتمان وبين القوى السياسية مخوَّلين من الولايات المتحدة كالبرادعي.وفي مختلف الأحوال، يبقى ما لا جدال فيه أن مصر قد انتفضت والعبرة في تحصين الثورة فموقف الطبقات الشعبية والجماهير عامة هو الموقف وليس نتوءات فردية مرتبطة بالأنظمة الغربية وعميلاتها (الحكومات غير الحكومية) تحاول اغتيال الموقف..
أما والتحليل والتقيييم والحكم على الديمقراطية الشعبية الحقيقية الأولى في التاريخ ما لاح أوانه بعد فلنستحضر نقداً جريئاً هذه المرة للديمقراطية التي أرعبتنا واستعمرتنا، وحولت فيالق من مثقفينا ومثقفاتنا إلى عملاء سواء بالمال أو بالاختراق الذهني. والتي اقامت ديكتاتوريات في الوطن العربي صار وصفها بالاستبداد مديحاً، وربما كان عمق هذا الاستبداد هو الكامن بل الدافع وراء انبثاق الديمقراطية الشعبية العربية في تونس ومصر، الديمقراطية النوعية والألمع في التاريخ بجِماعِهِ، وليس في عصر راس المال وحسب. ديمقراطية: كل الناس تنتفض كل الناس تقرر ومن أجل حرياتهم وليس من أجل اغتصاب أمم أخرى.
لقد أُثقلت عُقولنا وحتى أجسادنا بما كيل من مديح أعرج للديمقراطية العنصرية العرقية الذكورية في اليونان. ديمقراطية لليونان فقط ولمدينة/دولة فقط، وللرجال فقط وللأغنياء فقط. هي الديمقراطية التي أرست الأسس الطبقية والعرقية للديمقراطية الغربية اليوم. ولا يقلل من هذا الامتداد والترابط والحبل السرِّي أن الحضارة اليونانية شرقية أو متوسطية فالحضارة من إنشاء مختلف الأمم سواء في مضمونها الثقافي أو شكلها البضاعي.
إن كل ذلك المديح للديمقراطية اليونانية رغم انها كانت للأغنياء هو الجذر الحقيقي الذي امتد إلى حقبة الراسمالية[1] حين بدأت للأغنياء من اليونانيين وبهم وما طرأت عليها من تعديلات لم تخرج عن ضبط هذه الديمقراطية لصالح الأغنياء، وإلا تُسحق. ألا يشبه هذا الانحصار الذكوري الثري لليونانيين “ديمقراطية الكويت اليوم”!
إن عرض وتعليم هذه الديمقراطية في مدارسنا وجامعاتنا وتسللها حتى إلى بعض مساجدنا وكنائسنا هو مثابة وضع تفكيرنا، كما هو واقعنا المادي الاجتماعي، في بطن الفكر الأبيض الراسمالي ليعيد صياغتنا على النحو الذي يخدمه لنجد أننا لسنا سوى إفرازات ومسودات وأقزام صغيرة تتأرجح في حضن عملاق مفترس وهذا يقولبنا كما تشترط مصالحه ويحد من الإبداع ويجعل منا صدىً أو رجع صوتٍ لتنظيراتهم. وشكراً للذين أخذوا التكنولوجيا الرأسمالية، رغم حقوق الملكية الفكرية الشرهة، ورفضوا الأشكال الديمقراطية المخدوعة والخادعة من الغرب. هذا الذكاء الفطري الذي تنتجه عبقرية المكان التي تتغذى من عبقرية تاريخ الأمم وخصوصياتها الثقافية والحضارية عامة.
سوف يجادل كثيرون من مثقفينا اللبراليين والمتخارجين والمطبعين والمخبرين عبر ألبعثات والمنح[2] بأن الديمقراطية في الغرب الراسمالي توصلت في النهاية إلى “حق الكل في الاقتراع” وربما كان هذا أحد مغريات هؤلاء المثقفين/ات بالعمالة لها وحتى بالشعور ب “شرف” العمالة لها.، وبأن هذا هو النموذج المطلوب.
ويحسن أن نقرأ آليات وصول هذه الديمقراطية إلى هذا المستوى ومن ثم وجود ضوابط وكوابح في منتهى القدرة على الضبط إن ما شذت هذه الديمقراطية عن سيطرة بل ديكتاتورية راس المال.
أولاً: لعل القاعدة الذهبية في النظام الاقتصادي الرأسمالي، أو آليته الأساسية، هي منح بعض الحريات السياسية أو التضحية في هذا المستوى وباسم اللبرالية بالطبع من أجل الديكتاتورية أو الاحتكارات الاقتصادية أي منع الحريات الإقتصادية بل اغتصاب الحقوق الاقتصادية للعاملين بما هم المنتجين. وبالطبع توظيف الحريات السياسية في تفريغ الاحتقان كي لا يصل إلى المطالبة بالديمقراطية الاقتصادية، حق العامل في ما ينتجه اي حقه كمنتج والذي بدونه لا إنتاج. مقصد القول هنا أن الحريات السياسية هي في الأساس للحفاظ على عدم إرباك خط الإنتاج، اي الدجاجة التي تبيض ذهباً.
من يستطيع حيازة متطلبات الترشيح حتى في بلدان المحيط الفقيرة؟ ومن الذي لديه المال الكافي لشراء أعضاء الكونجرس الأميركي الذين يُعلن الواحد منهم: “إن ثمني هومبلغ كذا”[3]! أليس هذا تصميم الديمقراطية لتكون للأغنياء ومنهم؟
ثانياً:على أن الأهم في هذا الصدد أن الديمقراطية في الغرب الديكتاتوري الراسمالي توسعت وأُعطت حق الانتخاب وتشكيل الأحزاب السياسية والحديث…الخ وكلها مسائل هامة وحيوية، إلا أنها جميعاً اتت كمتطلبات أو شروط لمستويين:
· المستوى الأول وجوب إعطاء حريات معينة على مستوى الدولة القومية كي تُزاح المعيقات الداخلية أمام حراك السوق. فهي ديمقراطية السردية الكبرى اي السوق، وفي هذا المستوى تطورت مسألة المجتمع المدني كضابطة ثقافية سياسية للقمع المفتوح والأهم كضابطة لتفريغ الطاقة الثورية للفقراء.
· والمستوى الثاني وهو الأخطر، ترافقت هذه الديمقراطية الموسعة مع حقبة الاستعمار، فصار لا بد من خبث متبادل،:
o تقديم مرونات سياسية للناس كي لا يزعزعوا النظام وخاصة خط الإنتاج، كما اشرنا.
o تجنيد الشعب باسم القومية لتوسيع السوق المحلي إلى سوق عالمي بالاستعمار.
ثالثاً: ينتج عن هذا وذاك أن الديمقراطية ضرورية للراسمالية لأنها ضرورية لتقوية القدرة الاستعمارية. ووراء هذا الأمر أو من خلفه يصل إلى عمق ذهنية المجتمع المدني الغربي أن الاستعمار ضرورة مبررة كي يعيش الأبيض حياة مختلفة وجيدة[4]، وأن هذا لا يتناقض مع حقوق الإنسان التي يثرثرون عنها لأن الإنسان أكثر من إنسان، والإنسان الحقيقي بالنسبة لهم هو الأبيض، وربما ليس كل ابيض. وهذا ما يفسر إلى حد كبير أن المجتمع المدني في ذلك الغرب يُجيز ويُحارب في حروب الاستعمار القديمة منذ احتلال الهند والأكثر حداثة في دمار بغداد ولو كان بمستطاعه لاحتل مصر اليوم!.
رابعاً: إن هذه الديمقراطية الغربية الراسمالية بما هي امتداداً للمدينة الدولة، وأداة لراس المال وحربة للاستعمار هي بنية فوقية لقاعدة المادية المملوكة على اساس طبقي، وأهم من هذا في الدولة القومية المحددة، بمعنى أنها:
· تُخضع المجتمع المدني وتوظف مؤسساته لخدمة اساسها المادي/الطبقي
· حين تتخارج فبشكل عدواني اي استعماري
· تصر في العلاقة مع اية قومية أخرى على التمسك بالاستقطاب واحتجاز تطور الأمم الأخرى.
· فهي إذن قومية محلياً أما وجهها العالمي فليس أمميا ولا إنسانياً، وهذا ما يمكن رؤيته في جوهر حقبة العولمة.
خامساً: بهذه المواصفات فإن هذه الديمقراطية تحتجز تطورها الإنساني الذاتي، وهذا أحد مؤشرات الخروج الشعبي العربي في مصر وتونس عن قوالبها، وهو ما يمكن المجازفة بالقول إن هذا الخروج هو استدعاء التراث القرمطي الذي أقيم على أرضية الفهم التقدمي الاشتراكي للإسلام، وهي التجربة التي تحوي مضموناً أممياً مأخوذ من الدين بما هو للجميع.
بكلام آخر، فالديمقراطية الرأسمالية هذه ضرورية كي يُشارك الجندي في جيش الاستعمار ضد هذه الأمة أو تلك، وليمهد الطريق لنهب الفائض، وهو بهذا يضمن لنفسه شغلا وللمدنيين من ورائه رفاهاً.
ولا يختلف الأمر حتى في حالة التبادل اللامتكافىء ودور الكمبرادور حيث يحمي هذا الجندي مباشرة أو لا مباشرة أنظمة تنهب لحساب دولته.
ما تقدم يعيدنا إلى قراءة أولية للثورة الشعبية العربية بدءأً من تونس إلى مصر ولاحقاً. بمعنى أن هذه هي الديمقراطية المليونية التي لم يتمكن منها النظام بعد، وكلما طالت الأيام كلما صار القمع اصعب وأكثر فضيحة وكلفة، لم يتمكن النظام لا من قمعها ولا من تحريك سوى أعداد بائسة من الساقطين وأبناء أجهزة القمع بقيادةموسادية ومخابرات غربية، ووصل النظام إلى الاستسلام في مناوراته الخبيثة التي زعمت: إن هناك شارعاً مقابل شارع. نحن أمام حالة التصويت المباشر والشامل على إسقاط النظام، وبطرق سلمية لا تسمح بتوجيه تهم الإرهاب والتخريب، كما أنه تصويت شعبي للحفاظ على حقوق الشعب، وليست موجهة ضد عرق أو لون، وليست لصالح طبقة ضد أخرى، وليست لتجنيد الناس وراء دولة لها مستعمرات أو تخطط للاستعمار…الخ. إنها حالة المطلب الحرياتي الإنساني الشفاف. ومن هنا هي مدرسة جديدة ومدرسة أرقى.
ولأنها كذلك تبلور قوى “الديمقراطيات الغربية” حزمة مواقف ضدها، ولإنقاذ النظام، اي لإنقاذ مصالحها. فبعد أن ارتبك النظام والغرب معاً من صدمة وهول الحراك الملاييني ها هم يعاودون وبضغط الصهيونية التي هي في موقع قرار الاشتباك ضد الثورة، ومعهم جميعاً مثفوا التخارج العربي (الحكماء) ومثقفوا التطبيع بألوانه وأنواعه، الكل لا يكاد يمسك فرائصه فيحاولون التماسك والهجوم على الثورة؟ وبشأن الديمقراطية نقول،:هل هي ديمقراطية تلك التي تهاجم ثورة شعب بأكمله!!!
لعل درس اللحظة أن العالم اليوم يفرض عبر تونس ومصر جوهراً آخر للديمقراطية.
يثير هذا التساؤل مجدداً: ما الذي لا يحرك الشارع العربي ضد هؤلاء الأعداء؟ لماذا لا تُقتحم سفارات ومصالح الغرب في الوطن العربي؟ لماذا تضل الجماهير الطريق؟ لماذا لا يتم منع سفراء ومدراء شركات الغرب الراسمالي من وصول مكاتبهم، ولماذا لا تُرجم سياراتهم ومكاتبهم مما يُربك مفاصل الدولة القطرية التي تحتضنهم! جرى قليلا في لبنان مؤخرا وتوقف!!!
إنهم جميعا يحاولون التفرد بمصر والإجهاز على الثورة قبل أن تختار أكثر وأكثر الإضراب و العصيان المدني، وقبل أن يُفرض على الجيش التعسكر لصالح النظام مما يمكن أن يحدث شرخا فيه بين الشعب والنظام نفسه! إن كلينتون وفلتمان يمتطون حماراً أبيض اليوم لا ستدعاء قوى رأس المال والكمبرادور لإنقاذ فرعون. لا بأس يا سيدة كلينتون فركوب الحمير سبقته إليه النساء المضطهدات في وطننا، وقبل الاضطهاد امتطين الجياد. إن الغرب الراسمالي يقوم باستدعاءات وقحة ومهينة معلنين صراحة أنهم يفعلون ذلك: لأن مصر لهم!!!هذه أهرامات النظام المصري الحالي، أهرامات للاستعمار، أهرامات الفساد والجوع وحصار غزة وإخراج مصر من دائرة الصراع والكرامة.
لقد انتقل أعداء الثورة والأمة من التخطيط والفعل الخبيثين إلى مواقف علنية.
إذا كان هناك من يوم، فهذا يوم التمترس والاصطفاف مع مصر وليس الانتظار. كيف يتمترس ويصطف الأعداء بهذه العلانية ولا نفعل؟
قد نقفل بسؤال لا نجيب عليه: ترى لو حصلت في عراق البعث وصدام حسين مظاهرة واحدة وبالمئات كهذه المظاهرات التونسية والمصرية، كيف كان سيستثمرها الغرب الراسمالي؟ أليس للمصالح دورها الحاسم في ديمقراطية الغرب الراسمالي؟ هذا ناهيك عن النفاق..
عادل سمارة
[1] ربما كان أوضح امتداد للجذر الديمقراطي اليوناني إلى الديمقراطية الراسمالية الغربية ذلك المتمثل في الموقف من المرأة. أنظر كتابي الذي سيصدر هذا الشهر في دمشق: تأنيث المرأة بين الفهم والإلغاء. [2] أما ومشاعر الحكام كعملاء سياسة معروفة الآن ومكشوفة أمام زخم الثورة الشعبية، فأدفع عمري لأعرف كيف يشعر المطبعون والمطبعات، والمخبرون والمخبرات سواء بمراقبة الشارع أو الأكاديميا أو عبر منح مشروطة لتوصيف واقع الممانعة والمقاومة ممولة من أل سي آي إيه و أن إي دي وفورد فاونديشن الأميركيات والجامعة الميركية في القاهرة التي تدير البعثات الأكاديمية في الوطن العربي وخاصة البعثات للأرض المحتلة وتوزعها على جامعات العالم المتأمركة،، ومن النرويج والسويد الأميركيتين ايضاً، لا شك انهم يبتهلون إلى الشيطان لإجهاض الثورة. ولا شك أن سادتهم يسلقون اقفيتهم بالعصي والكرابيج على فشل رصدهم للمرحلة. ولا يفوتنا هنا كلمة لوزير الثقافة المصري المستقيل جابر عصفور الذي اصر على إكمال حياته بعار الوقوف ضد الشعب، ايها السيد بالعار نكفنك! ولدينا في فلسطين كثرة من أمثالك. [3] أنظر كتاب: أفضل ديمقراطية تُشترى بالمال” [4] ألم يكررجورج بوش الصغير القول بأن: العالم الإسلامي يحسدنا عيشتنا! ومهم أن نذكر هنا أن ثروتهم من جيوبنا!!!وكرر ذلك الصحافي الصهيوني فريدمان وطريف ان نذكر هنا أن المبادرة العربية للاستسلام هي إخصاب تلقيح هذا للأنظمة العربية. فأي سفاح