تاكتيكات الكتلة السوداء :
ظهر تاكتيك الكتلة السوداء في ألمانيا الثمانينات، في الاحتجاجات ضد الأسلحة النووية، وهو تاكتيك يعتمد على تجمع المتظاهرين في كتل ضخمة مرتدين أوشحة وملابس وأقنعة سوداء تميزهم عن غيرهم، أهم ما يتسم به تكتيك “الكتلة السوداء” هو يقوم على الانضمام الطوعي وعدم الاعتماد على قيادة منظمة للتحرك.
وعلى العكس من مظاهرات السنوات الماضية في مصر، التي كان يتم الدعوة لها من قبل أحزاب وتنظيمات سياسية، والتحرك فيها على أساس الانتماء والالتزام الحزبيين، اتسمت مظاهرات انتفاضة الغضب بالانضمام والتحرك ،عفويًا وطوعيًا، بلا معرفة مسبقة لمن يجاورك وبدون سؤال عن أراءه السياسية، المسيرة المليونية الأولى والمعركة الأساس في تلك الثورة، كانت يوم الجمعة الثامن والعشرين من يناير (كانون الثاني) التي سميت جمعة الغضب، وقد اعتمد تنظيم هذه المسيرة على تجمع عفوي من قبل المواطنين بعد صلاة الجمعة، وهي الصلاة الكبرى عند المسلمين وعادة ما تجمع كتل ضخمة من المصلين، والتحرك إلى ميادين بعينها، وتتشابه هذه الطريقة في التجمع مع تاكتيك الكتلة السوداء من حيث غياب التجميع على أساس مجموعات سياسية وغياب القيادة المنظمة للتحركات، وقد استمرت تلك المسيرات بلا قيادة حتى تم الاستيلاء على ميدان التحرير وتحريره من قوات نظام مبارك وبدأ الاعتصام الذي انتهى بتنحي مبارك.
مناطق التسيير الذاتي المؤقتة:
في دراسته الهامة عن مناطق التسيير الذاتي المؤقتة م.ت.م T.A.Z، يعرف الكاتب اللاسلطوي الأمريكي حكيم بيه تلك المناطق بأنها مناطق تُعزل من أي شكل للسلطة الهرمية بصورة مؤقتة، ويضرب لها مثلاً بما سماه يوتوبيات القراصنة، الشرط الأساس لتلك المناطق هو هروبها من تحت السيطرة السلطوية وإدارتها ذاتية بصورة لا هرمية من قبل أعضائها، وبعد تنحي مبارك وقبله كذلك، تم تشبيه التحرير بكوميونة باريس، اوعترض بعض الكُتاب على هذا التشبيه بسبب غياب المحتوى الطبقي المباشر عن اعتصام التحرير.
من خبرة المشاركة في اعتصام التحرير أعتبر أن ميدان التحرير ظل، ولمدة خمسة عشر يومًا، منطقة تسيير ذاتي مؤقتة يدار بصورة عفوية، بدون أي تراتبية، بلا أي سلطة من أي نوع، بل كانت لجان النظام أو لجان حماية الاعتصام مجرد لجان أسمية تُشكل بصورة لحظية وعفويًا عبر نداءات في مكبرات الصوت للشباب الموجود بالتوجه إلى البوابات الخارجية، كانت تلك اللجان مكونة عمليًا من كل مشارك في الاعتصام، سواء أقام ليوم أو بعض يوم أو أقام طوال المدة، ومجرد صدور نداء الحماية كان الجميع يحمل العصي، أو يتوجه إلى البوابات لحماية الاعتصام من عملاء النظام (البلطجية)، لقد كان ذلك إبداعًا عفويًا لانتفاضة الغضب المصرية، كونها بلا قيادة وبلا سلطة ومسيرة ذاتيًا، وهو الإبداع الذي حير أركان النظام في التعامل معها، وهو ما بدى في مطالبات أركان النظام المستمرة بوجود قيادة يتم التفاوض معها.
ماذا بعد التنحي؟
بمجرد تنحي مبارك صدرت دعوات يمكن تصنيفها تحت بند تجميل المدينة وتشجيرها، دعوات لتنظيف المدينة واحترام قواعد المرور وعدم التحرش بالفتيات، هذه الدعوات صدرت حسب اعتقادي عن البرجوازية المدينية، التي ثارت على نظام مبارك بسبب فساده المعيق لتطورها الرأـسمالي وصعودها الطبقي، فالبرجوازية المدينية لم تثر على النظام الرأسمالي وانما ثارت على ما تبقى من نظام بيروقراطية العسكر الذي كان يدير الدولة المصرية معيقًا آفاق التطور الرأسمالي الحر، ترافق هذا مع تصاعد الاحتجاجات العمالية في أكثر من موقع وفي أكثر من محافظة، وهي احتجاجات بعضها مطلبي صرف، وبعضها يمزج الاقتصادي بالسياسي مثل احتجاج موظفي هيئة البريد الذي صدر عنه بيان، تم توقيعه باسم لجنة حماية الثورة في هيئة البريد.
الخطورة، في نظري، تكمن في الدعوات الصادرة عن قوى طبقية، برجوازية في الأساس، إلى الوحدة تحت لواء واحد، لواء البرجوازية بالطبع، تلك الوحدة التي يفزعها أي خلاف أو تجذير حقيقي لتلك الانتفاضة وتحويلها من مجرد مطالبات بإصلاحات دستورية إلى ثورة أجتماعية شاملة ضد نظام الاستغلال الرأسمالي والعمل المأجور، تلك القوى تصور أي إضراب عمالي على أنه احتجاج فئوي يشتت القوى ولا وقت له الآن، بل وأكثر من ذلك، على أنه ثورة مضادة يحركها بعض أركان النظام القديم، وتترافق تلك الدعوات مع تحذيرات يطلقها المجلس العسكري الأعلى الحاكم ضد أي تظاهرات أو احتجاجات.
إن تجذر الانتفاضة المصرية طبقيًا يعتمد على دخول القوى العمالية وتنظيمها لنفسها عفويًا ولا سلطويًا ضد سلطة رأس المال وضد سلطة الدولة والعسكر، ذلك وحده هو الضامن لتطوير تلك الانتفاضة وتحويلها إلى ثورة اجتماعية شاملة، الآن تقف الانتفاضة المصرية أمام ثلاثة احتمالات أساسية، أولها توقف الانتفاضة عند مجرد المطالبات بتحسين شروط الصراع السياسي والقيام بببعض إصلاحات دستورية لا تمس البنية الأساسية للنظام السياسي والاجتماعي وهو ما يترتب عليه إعادة إنتاج نظام مبارك بصورة أقل قبحًا، وثاني الإحتمالات تطور الوعي الطبقي للعمال المصريين وتطور احتجاجاتهم من احتجاجات مطلبية إلى احتجاجات تمزج بين السياسي والاقتصادي، عندها تتحول الطبقة العاملة من طبقة في ذاتها إلى طبقة لذاتها، وهو ما يترتب عليه تطور الانتفاضة إلى ثورة اجتماعية حقيقية، وأخيرًا يبقى الاحتمال الثالث، وهو أكثر الاحتمالات سوءًا، المتمثل في صعود قوى فاشية، منتهزة فرصة الدعوى إلى وحدة طاغية بلا أي تعددية، تلك القوى الفاشية لن تكون فقط قوى دينية، فالأخطر هو صعود الفاشية الشعبوية التي ستتبنى المطالب الشعبية، من عدالة اجتماعية وعداء للإمبريالية، لكنها ستعزل ذلك عن أي ممارسات ديمقراطية حقيقية، تلك الاحتمالات وغيرها الكثير احتمالات قائمة أمام الانتفاضة المصرية التي لا زالت في بداية طريقها، انتفاضة غضب لم تبلغ الثورة بعد.