1. لقد أثبتت فعاليات يوم ذكرى النكبة مركزية حق العودة واستحالة تجاوز 1948 في الذهنية والإرادة الفلسطينية رغم كل المجازر والقمع والخيانات التي ارتكبتها الأنظمة الرسمية العربية والفلسطينية في التنازل عن ثلاثة أرباع أرض فلسطين أملا في الحصول على دويلة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد بينت المشاركة الواسعة عربيا وفلسطينيا مستوى الوعي بأبجديات الصراع لدى الجماهير رغم كل ألاعيب التضليل التي تمارسها أنظمة وفصائل ومنظمات حكومية ولا حكومية، وقد أثبتت الجماهير قدرتها على ابتكار الوسائل لإعادة تسليط الأضواء على جذر القضية، نكبة 1948 .
2. التحركات الشعبية العربية، وخاصة ما جرى من تظاهرات ومن ثم اشتباكات في القاهرة وعلى ضفة قناة السويس، أعادت التأكيد على عمق ارتباط القضية الفلسطينية بقضية التحرر العربية ومدى ترابط نظام القمع العربي مع النظام الصهيوني، فقضية فلسطين ليست قضية عودة لاجئين فحسب، والتضامن معها ليس محض عواطف، بل هو ترابط استراتيجي في قضية تحرر ونهوض الأمة، ولذلك ربط المتظاهرون تحرير القاهر بتحرير القدس، أما القمع الذي تعرضت له التظاهرات على أيدي أنظمة مصر والاردن وسلطة عباس فتظهر بوضوح الوجه الآخر من العملة.
3. ليس من الممكن تجاهل حقيقة أن النجاح الذي تحقق يوم 15 أيار (مايو) 2011 تشوبه دماء ما يقارب العشرين شهيدا قتلهم العدو بدم بارد وبدون أيه تبعات سياسية أو إعلامية، ودمهم يحتم علين عدم الإنجرار وراء العواطف بل وطرح بعض الملاحظات حول التنظيم والإعداد والعمل الإعلامي الذي رافق العملية، وحول الأطر والبنى السياسية التي ينبغي ان تقوم عليها ما يفترض أن تكون “الانتفاضة الثالثة”.
4. يسري على الحراك الشعبي الفلسطيني ما يسري على الانتفاضات العربية من كون الرأي العام العربي والزخم الشعبي هو العنصر الحاسم وليس موقف الإعلام والرأي العام الغربي. إن المراهنة فقط على الإعلام وعلى حرب الصور ستكون إما خاسرة تماما إذا ظلت التحركات في شكلها الحالي قصير الأمد، أو ذات ثمن عال من الدم المطلوب لتحريك أجهزة الإعلام إذا شاء العرب تصعيدها، وحتى هذا سيكون بدوره ذو فاعلية قصيرة الأمد. لقد تجاهل الإعلام الغربي الدعوات إلى مسيرات العودة وما سبقها من تحركات، وتناول حجب إدارة فيسبوك لموقع الانتفاضة الثالثة (ربما لمنحه شيئا من الأهمية)، وفي تغطيتها الهزيلة للحدث ركزت أجهزة الإعلام الغربية على اختراق الحدود عند مجدل شمس وبالكاد تكلمت عن القتلى والجرحى (يورونيوز مثلا ذكر أن مائة فلسطيني عولجوا في مسشتفيات إسرائيلية دون أن يتطرق لجرحهم بالرصاص الإسرائيلي!)، وتم تناسي الموضوع تماما في اليوم التالي في حين بقي اعتقال رئيس صندوق النقد الدولي في قضية التحرش هو حدث الساعة، أما دبلوماسيا فكان رد الفعل على المجزرة يقارب الصفر. كل هذا يبقى في نطاق المتوقع فموضوع النكبة وحق العودة يمس بأساس الكيان الصهيوني ولذا فهو غير مطروح بتاتا للنقاش إلا إذا نجحنا في تغيير موازين القوى. السؤال المطروح هنا: ماذا سيكون شكل التحركات القادمة؟
5. تمت التعبئة لهذه التظاهرات بجهود شعبية غاب عنها التواجد الظاهر للاحزاب والمنظمات السياسية التقليدية، وتجاوزت مطالبها أجندات الفصائل الفلسطينية الآنية من ناحية التركيز على 1948 أولا وعلى حق العودة شبه المغيّب عن وثيقة المصالحة الفصائلية، وأيضا من ناحية محاولة خرق حصار غزة جماهيريا، فمطالبة خالد مشعل والإخوان المسلمين من ورائه المعتصمين في القاهرة بعدم تحميل النظام ما لا يطيق هي مؤشر على تجاوز الوعي الشعبي حتى لمواقف حماس، ركيزة المقاومة حاليا.
6. لا يتناسب الزخم الجماهيري التي حازت عليه التظاهرات مع الفراغ السياسي والتنظيمي الموجود، وهذا تبدى بوضوح في عدم قدرة المنظمين على استثمار الزخم الشعبي، فلا هم تمكنوا من وقف تدفق المشاركين على الحدود ومنع المجزرة، ولا هم تمكنوا من توجيه هذا التدفق والاستفادة منه ميدانيا. الفراغ السياسي يبدو كذلك واضحا في غياب الجواب على السؤال التالي: ماذا سنفعل غدا؟
7. وعليه فما زال من المبكر التكهّن حول إمكانية نشوء أطر سياسية جديدة أكثر نجاعة وجدية وجذرية تكون بديلا أو مكملا للفصائل الموجودة وقطعا مع ثقافة الأنجزة واستجداء الدعم التي تنخر عظام المجتمع الفلسطيني بالذات، وقد بينت الأحداث أن وسائل الاتصال الحديثة من فيسبوك وغيره وإن نجحت أو ساعدت في التحريض والدعاية للتحركات الجماهيرية فإنها لا تغني عن الأطر المنظّمة والبرنامج السياسي، وبالعكس فإن غياب المنظمات والبرنامج السياسي يعجل في تفرغ الزخم والمحتوى ويدفع بالحركة مجددا إلى أحضان الأنجزة أو الحسابات الضيقة، أو لتنتهي في مشاركات في حملات الإنترنت وتوقيعات الفيسبوك..
8. إن أسوأ ما ما يواجه انتفاضة شعبية هو التحول إلى فولكلور نضالي محشو بالرمزيات ومفرغ وبعيد عن المطلب السياسي، فكونها “ليست ملكا لأحد” يسهّل إقصاء كل “أحد” يطرح مطلبا سياسيا، ويساعد من هم موضوعيا وذاتيا في صف العدو على الحديث باسم المنتفضين، وهذا ما نراه في نظامي تونس ومصر “الإنتقاليين”، وكذلك في سلطة عباس التي قمعت المتظاهرين يوم الأحد لتنكس الاعلام حدادا يوم الإثنين. إن الحالة الفلسطينية تحديدا توجب وضع الحسم السياسي الداخلي أي إسقاط سلطة أوسلو وخلق بنى سياسية بديلة لأجهزة م ت ف المترهلة على رأس سلم الأولويات، فسلطة أوسلو لن تألو جهدا في وأد التحرك الشعبي ثم عزف النشيد الوطني على ضريحه.
9. إن مفهوم “الشباب” والـ “لاحزبية” هو من التضليل بمكان، فهو ينفي العقلانية والنديّة عن الفعلة الحقيقيين ويعزز وصاية “الحكماء” من قيادات أحزاب الأمس المزمنة غير الراغبين برؤية أحزاب وقوى جديدة، تماما كما انعكست المبالغة الإعلامية والسياسية في تقديس “أطفال الحجارة” سلبيا على أشكال التنظيم الجديدة التي ظهرت مع الانتفاضة الأولى وأعاقت تطورها إلى بنى مقاومة قاعدية تحمي الانتفاضة من التحوّل إلى مجرد ورقة مفاوضات، وحيدت البالغين سياسيا وإعلاميا ولسان حالها يدعو الجميع إلى الجلوس أمام التلفاز ومراقبة القاصرين يحصدهم رصاص الاحتلال.
إن كون هذا التحرك جزءا من الانتفاضات العربية ضد أنظمة القمع والفساد والتبعية يقودنا استنتاج مشابه حول ضرورة أن يرافق هذا التحرك تحركا داخليا نحو تشكيل الأطر السياسية القادرة على ربط الحراك الشعبي ببرنامج سياسي مقاوم يكون بديلا لتكتيكات النخبة المهيمنة على القرار السياسي، فيتبع الزحف الشعبي على الحدود زحف شعبي على المراكز الأمنية في دول الطوق وفي مناطق سلطة أوسلو، وبهذا فقط نضمن استمرارية الحراك فلا تذهب دماء شهداء يوم ذكرى النكبة هدرا.
المعسكر المناهض للإمبريالية
فيينا، 17 أيار (مايو) 2011