لم يتخيل حسني مبارك الذي حكم مصر وأهانها ثلاثة عقود أن أحداً سيجرؤ ذات لحظة على الوقوف في وجهه. كانت حساباته استحالة وقوف فرد، بالمعنى الفردي، أمامه لكنه لم يدرك أن الشعب وحده الذي بوسعه أن يفعل.
ليس سؤالنا حول المحاكمة والحكم وحق الشعب، وإنما السؤال هو: هل سيتم استخدام المحكمة وتطويل جلساتها لامتصاص حراك الشعب في الميادين لا سيما أن كثيرا من الأحزاب أوقفت الاعتصامات مع شهر رمضان، كما اهتبل المجلس العسكري الفرصة لقمع المتواجدين في ميدان التحرير؟ هل ستكون المحكمة تقطيع وقت ومثابة مسلسل الأطول ربما في التاريخ مما ينتهي إلى تفريغ الشحنة الوطنية والطبقية لفقراء مصر وهم الأكثرية، وهم أهل الشهداء والمعتقلين؟ هل ستغطي المحكمة على مطالب العمال وإضراباتهم وما يعانونه رجال ونساء من استغلال لم يتغير بتنحي مبارك؟ هل سينشغل الناس بأحاديث المحكمة بينما الثورة المضادة تأكلهم من الداخل كالمرض الخبيث عبر تمكين الطبقة المالكة من الاقتصاد بكل ما تمارسه من استغلال وفساد وتهريب ثروة البلد، وعبر مواصلة الولايات المتخدة وكل الغرب تمويل منظمات الأنجزة كي تشغل الناس بأن محاكمة مبارك نقلت مصر إلى أعلى وضع ديمقراطي، فلا مطالب ولا مستحقات بعد هذا؟ وعبر إعفاء المجلس العسكري من وجوب نقل السلطة وعبر تواصل تنسيقه مع الولايات المتحدة، وعبر غض الطرف عن اتفاق كامب ديفيد واتفاقات الغاز والكويز وعبر الكثير الكثير!
هل سيجلس الناس في البيوت متمتعين بهذا المسلسل متخذين موقف المتشفي والمكتفي والمحايد؟ لماذا مثلا لا تنصب شاشات عملاقة في الميادين، على الأقل ليشاهدها الفقراء الذين لا يملكون
أجهزة التلفاز؟ فيكون الأمر مواصلة التجمع في الميادين تعبيراً عن مواصلة الثورة.
ليست المسألة في حصرها بمحاسبة مبارك على ما فعل، وليس لأن هذا لا يكفي، بل لأن ما فعله مبارك هونتاج عمل مؤسسة كاملة، طبقة حاكمة مالكة ناهبة. وهذه الطبقة ستكون سعيدة بذهاب مبارك طالما هي باقية. فلا نظام حكم حتى لعشيرة مجسداً في فرد فقط فما بالك بدولة.
لا شك أن محاكمة ثلة من الفاسدين مسألة هامة، ولكن ربما يكون وراء ذلك مواصلة خديعة التضحية براس النظام لحماية وتكريس النظام نفسه. ولكي لا نقع في سيولة المصطلحات، فالنظام هو أُناس يملكون ويحكمون وينهبون ويفسدون، هو طبقة أو حتى تحالف طبقة مع اخرى أو مع شرائح. هذا هو الأخطبوط الذي يمسك بتلابيب مصر البلد ومصر المجتمع ومصر غدٍ.
بعد جدل وتردد وتدخلات من حكام عرب وغربيين كي لا يُحاكم مبارك جيىء به إلى المحكمة. وبالطبع فمختلف المتدخلين هم ممن يدعون احترام العدالة وخاصة الغربيين. لكنها العدالة التي يفصلونها طبقا لمصالحهم وحينما يكون السيف بيدهم. ولولا تواصل التواجد في الميادين لبقي مبارك في منتجع شرم الشيخ الذي حوله إلى قاعدة للإرهاب الرسمي الدولي لمطاردة ما يسمى بالإرهاب. لمثل هذا السبب اختار أن ينتهي هناك حيث الموقع الأقرب لتاريخه. ولكن استجلابه إلى المحكمة في القاهرة مستلقياً على ظهره لا يعني الاكتفاء بمظهر العدالة هذا. فالمطلوب هو تواصل الجوهر الثوري. مطاردة الحزب الحاكم ووضع اليد على ممتلكاته وممتلكات قيادات الحزب والنظام وليس فقط رموز النظام. لأن هذه هي مقدمات الانتقال إلى الثورة الثانية.
ومع هذا الانتقال ستكون هناك سلسلة من المحاكمات تبدأ بمحاكمة مبارك لتدخل في محاكمات لتمفصلات تظامه تحت سؤال: من اين لك هذا؟ فعدد من سيُسألوا هذا السؤال هو بالملايين. اسئلة لراس المال الطفيلي والكمبرادوري والعقاري. اسئلة لمن استغل العمال والعاملات بأجر بالملاليم دون ضمانات ودون تثبيت في العمل، أسئلة لمن استوردوا من الخارج لتدمير الصناعات المحلية، اسئلة لمن سرقوا القطاع العام وصفَّوا المشاريع الناجحة في هذا القطاع، أسئلة لحالة النهب العام، أسئلة لمن رتبوا اتفاق الكويز والغاز، اسئلة لا تنتهي لأعداد لا تنتهي. واسئلة لمن جرت رشوته بالمال السياسي الأجنبي بدءاً بقيادة الجيش التي حولت الجيش إلى أكبر شركة في مصر، ففرزت الكمبرادور العسكري والاستغلال العسكري والفساد العسكري، اسئلة لقيادات الأنجزة التي اخترقت الحركة الوطنية واليسارية وحولت قياداتها إلى شريحة ضد الثورة وضد الشعب وضد المستقبل وهي تعلم أو كما ثقَّفها الممولون بأن مستقبل اي بلد هو في حركة وطنية اشتراكية عروبية ليس إلا. واسئلة لمن خربوا التعليم في مصر بدءا من الأساسي وصولا إلى الجامعات ومنها الجامعات الأجنبية وخاصة الأميركية التي كانت تدير ولا تزال أعمالاً تجسس الأكاديميا على صعيد المنطقة.
هل كان مبارك بهذه القوة حتى يحرك كل هذا الطوفان في مصر؟ هذا معنى أن المطلوب تصفية النظام ووضع اليد على ما استملكته طبقة وإعادته إلى الشعب. وبهذا المعنى فالديمقراطية الشكلانية هذه لا تكفي ولا بد أن يقول الشعب ما قال الأعرابي ذات يوم: ترى…اين ذهبت تلك الناقة…لا بد من مواصلة السير. الناقة هي للأعرابي اداة الإنتاج هي ثروة الشعب المنهوبة والسارق تحت الهدف.
لا بد من مواصلة السير إلى الثورة الثانية والثالثة