الصدمة الأولى.. غزة عادية
مدينة ساحلية تشبه المدن المصرية فى أغلب التفاصيل، كأنى فى عجمى أبو تلات. حتى الناس فى لبسهم، فى حكيهم، فى أشكالهم يشبهون مصر.
ذهبنا نبحث عن الحصار بفضول السواح رغم أن رسالتنا أننا إخوة نكسر حصارا. على السطح الحصار انتهى، فالأسواق عامرة والسوبر ماركتات بها كل البضائع.
الأنفاق كفيلة بما ينقص. طوال الطريق من رفح (الفلسطينية) إلى غزة سيارات نقل ضخمة تنقل بضائع الأنفاق. نتفلسف وننظر: غزة لا تحارب الجوع إذا، واستمرار خطاب التجويع وراءه مصلحة.
تبدأ بوادر الحصار فى الظهور بعد أن نصل للفندق: الكهرباء غير منتظمة، فهناك أزمة طاقة ووقود، ومصادر المياه محدودة ومحطات تحلية مياه البحر لا تعمل بكفاءة لغياب الموارد والعتاد.
طبعا مشاكل المياه والطاقة موجودة فى مدننا المصرية، فقط لم أتعود أن أواجهها فى فندق «غالٍ» بحى «راقٍ». نتفلسف وننظر، يقرب الحصار المسافات بين الطبقات إذا؟
من ضمن ما بحثنا عنه بأعين السواح حطام الحرب: أين المبانى والمدارس المقصوفة؟ عدا برج الأندلس آثار الحرب طفيفة: مطرح ضرب رصاص على بعض المبانى. عجيب أمرهم: لماذا لم يتركوا أنقاضا يتباكون عليها؟ نتفلسف وننظر: أن غياب الأنقاض بالتأكيد يفسر غياب الشعر الملهم. لن يخرج من غزة محمود درويش جديد.
الصدمة الثانية.. غزة ديستوبيا
الفندق على البحر، البحر نفس البحر، لا مفاجأة فى كونه لا يختلف. يحل الليل ونرى البحر مسيج بأضواء كاشفة كالمستخدمة فى ملاعب الكرة؛ لإحكام الحصار سيج العدو البحر!!
فى المعتاد لا يمكن التعامل مع أى وحدة جغرافية أكبر من حى، أو ربما قرية، على أنها كيان مادى يمكن أن ندركه بحواسنا، فالمدن والأقاليم والأوطان كيانات رمزية بالأساس. لترى مصر كلها تحتاج أن تنظر إلى خريطة، لتدرك مصر كلها عليك أن تتعامل مع أفكار عن تاريخ وشعب وأمور رمزية ـ قد تكون النيل أو الأهرامات أو ربما تكون ميدان التحرير.
الصهاينة استطاعوا أن يتعاملوا مع قطاع غزة على أنه جسم مادى، يمكن تطويقه بجدار، حتى البحر تمكنوا من تسييجه. هذا «الإنجاز» فى حد ذاته خرافى، يتحدى قدرتى على الاستيعاب.
أحاول أن استوعب معنى الحصار. المفردات والتفاصيل كأنها خارجة من رواية خيال علمى عن مستقبل مظلم للبشرية: مجتمع بأكمله مسجون، البحر مسيج، روبوتات طائرة تستطيع أن تقتلك فى أى لحظة، طائرات تخترق حاجز الصوت كل حين وآخر، اقتصاد أنفاق تحت الأرض، عدو جبار مختفى ينوب عنه خرسانة وحديد ونار، لا تراه أبدا لكنه حاضر دائما.
أتذكر فيلم تيرمينيتر: فى أغسطس ١٩٩٧ الحاسوب سكاى نت طور نفسه مطردا ووصل لإدراك الذات ثم سيطر على الأرض، فى عام ٢٠٢٩ المقاومة البشرية تكبد سكاى نت خسائر كبيرة، سكاى نت يبدأ فى إرسال روبوتات قاتلة، عبر الزمن إلى الماضى، لتقتل المقاومة فى المهد.
فى وعى المجتمع البشرى حاليا لا يمكن أن يسمح بحصار غزة، المجتمع البشرى لا يسمح بروبوتات قاتلة، ما زلنا نتحدث عن الحرب بمنطق الفرسان حيث العدو ماثل أمامك وجها لوجه، والشجاعة والبسالة أهم من العتاد. ما يحدث فى غزة (ويحدث بعض منه فى بقاع أخرى على الأرض) خارج السياق، وكأنه مرسل عبر الزمن من مستقبل مظلم لم نصل إليه بعد. لا نتفلسف ولا ننظر، نتهرب من الأمر.
الصدمة الثالثة.. غزة حرة
غزة تشبه مصر، لكن شيئا ما يختلف: كل سور، كل مبنى، كل ناصية منقوش عليها أسامى الشهداء، كل أسرة تعلن بفخر عن شهدائها. آثار الحرب قليلة لكن حواديتها كثيرة، وهى على لسان الجميع. خلف المشهد العادى تاريخ من النضال العنيد، كنت أعلم هذا بالطبع، لكنى لم أستوعب أنه نضال فى كل الشوارع.
التبس على الأمر وتصورت أن الصهاينة انسحبوا ليحكموا حصارا، لكن زيارة غزة تفهمك أنهم انسحبوا لاستحالة استمرار تواجدهم فى ظل ذلك النضال، تلك المقاومة.
الاختلاف أليف بالنسبة لى، غزة الآن لا تشبه عجمى أبو تلات، بل تشبه شارع محمد محمود: كل شبر دفع ثمنه دم، وكل شبر يذكر شهداءه بفخر فى الرايحة والجاية فى جداريات وجرافيتى. لم يقدر الاحتلال عليهم فانسحب وتخلى عن أرض غزة. ولم يقدر النظام علينا فسحب رئيسه وانسحب من التحرير ومحمد محمود. غزة انتصرت على الاحتلال فانسحب وترك وراءه الحصار، وغزة انتصرت على الحصار. بنت حريتها على دماء أبنائها وها هى تعيد بناء مبانيها بإعادة تدوير أنقاضها، لا نرى الأنقاض لأن أهل غزة مشغولون بالحياة، يفكون الحديد المسلح من أنقاض المبانى ويفردونه، يطحنون الأنقاض ليستخدموها فى صناعة أسمنت وطوب جديد.
الفلسطينى هو ذلك الإنسان الذى يناضل ليحيا حياة طبيعية فى ظل ظروف استثنائية لا تنتهى. فى مصر أيضا نحيا فى ظروف استثنائية منذ عام ونصف، لكن فى مصر يبحث البعض عن حياة طبيعية بالهروب من الاستثنائى، ويلعن البعض الظرف الاستثنائى. فى غزة كل الشوارع محمد محمود، وفى غزة لا يهرب أحد، وفى غزة يعتز الكل بالظرف الاستثنائى بقدر اعتزازهم بالحياة الطبيعية، لكنهم لا يخلدون الظرف الاستثنائى.
الصدمة الرابعة.. غزة منقسمة
لا تتزين الشوارع بأسامى وصور الشهداء فقط، تتزين أيضا برايات الفصائل، كل بيت يرفع لواءه: الأخضر حماس، الأصفر فتح، الأحمر جبهة شعبية، الأسود جهاد اسلامى. الكل ينتمى، الكل يتحدث عن فصيله، الكل يشتكى من الانقسام.
حتى الشهداء يرفق بصورهم تنويه عن الفصيل.
يبدو وكأن كل ممثلى السلطة والدولة من حماس: شكلهم، أداؤهم ينم عن انتمائهم للفصيل. السلطتان محل نقاش دائم فى أى مكان مع أى أحد وفى أى وقت. غضب كامن، أتصور أنى أتفهمه، فالسلطة العربية لها ثوابت فى إهدار حقوق مواطنيها، ما لا أفهمه هو ذلك الغضب الكامن فى ممثلى السلطة أيضا! أين منبعه؟
وما أكثر ممثلى السلطة. يأخذ الأمر منحى كاريكاتورى ليحول قصة الخيال العلمى من الديستوبيا إلى الكوميديا السوداء. مخبر فى كل كادر فعلا، مستحيل تتحرك بدون الاحتكاك بهم، فى ظل الحصار والاحتلال والاقتتال والأحداث الجسام يجدون الوقت والجهد للتركيز على الفصل بين الجنسين ومحاولة فرض الحجاب. والحجج جاهزة دائما: وضع غزة خاص، هذه منطقة عسكرية، غزة مستهدفة، العادات والتقاليد…
حسنا. أوجه التشابه لا تزال قائمة على أى حال، نتفلسف وننظر، الخوف مهيمن على غزة، لا أحد يتكلم بحرية.
لا أفهم إصرار أفراد الأمن المجنون على الاحتكاك بنا، فى النهاية ما نحن إلا زوار، ستمر خمسة أيام ونرحل. حتى مبارك كان يجيد لعبة هوامش الحرية. لماذا يصر هؤلاء على التصادم معنا؟ نحاول تجاهل الانقسام لكن الكل يحكى عنه، نحاول تجاهل سلطة حماس لكن أحد أذرعها يصر أن يحتك بنا. نفس الكلام يقوله الجميع، نفس الإحباط، نفس العجز، نفس الغضب. لا شىء يحدث، لا شىء له معنى. نتفلسف وننظر: تحتاجون لثورة!
يقولون إن الأسرى وحدوا الشعب بإضرابهم عن الطعام. نحاول الهروب من الانقسام بزيارة لاعتصام أهالى الأسرى، هم أيضا مضربون عن الطعام تضامنا مع أبنائهم، لكن يلاحقنا الانقسام: الاعتصام نفسه مقسم حسب الفصائل، لافتات تعلن عن انتماء كل أسير، ميكروفون زاعق بخطب حزبية لا تنتهى، جدل حول حق الرجال فى زيارة خيمة النساء ومقابلة أمهات وزوجات وأخوات وبنات وخالات الأسرى.
أخيرا ندخل الخيمة. لا أدرى كيف أتحدث مع أم حرمت من زيارة ابنها ٧ سنوات، ينقذنى ابنى خالد الذى يشاركنى الرحلة، فالأمهات تسأل عنه وهذا يفتح أبواب الحوار، أتردد ما بين الرغبة فى الحكى عن ولادته أثناء حبسى لأظهر أنى أعرف بعضا من عذابات السجون وبين الخجل من مقارنة حبس شهرين باعتقال عشرات السنين. أحسم أمرى وأحكى، فالأهم التأكيد على التشابه بين من يحكم مصر وبين الصهاينة. فحتى أمهات الأسرى (الذين يناضلون بأنفسهم لتحرير أنفسهم) يسألن عن أحوال مصر ويتطلعن لانفراجة فى فلسطين بناء على انتصار ثورتنا. نتفلسف وننظر: عليكم بتخطى الفصائل أولا!
الصدمة الخامسة.. غزة محتلة
يخنقنى التحرك بمنطق السائح، يقلقنى تصدر الانقسام المشهد، واضح أن وجود خالد ابنى مفتاح لتواصل أكثر حميمية، أنفصل عن المجموع وأجول بالمدينة مع خالد.
مخيم الشاطئ يشبه أى حى شعبى فى مصر، منظر السوق مألوف، لكن هنا البضائع القادمة من إسرائيل تسود المشهد. أفهم من النقاش أن الفقراء لا يقدرون على ثمن بضائع الأنفاق. قد تعطيك غزة انطباعا أن الحصار انتهى لامتلاء متاجرها بكل أنواع البضائع، لسخط أهلها من خطاب التجويع وما يشبه الاستجداء، لكن بالنسبة للكادحين ما زالوا تحت رحمة ما تقرر إسرائيل السماح به.
كما ترتفع كثافة البشر بالمخيم ترتفع كثافة رايات الفصائل، يبدو أنى أتنقل ما بين مناطق شعبية كل فصيل. الكل يحتفى بخالد ويجود بكرمه، لكن يختلف تحليل ورؤية كل منهم للوضع فى مصر. لا يتابع أهل المخيم تفاصيل أحداث مصر لحظة بلحظة مثلما يفعل شباب الفيس بوك وتويتر الفلسطينيين، لكنهم يظلون متابعين للأحداث؛ لا حزب كنبة بغزة بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية، للكل رأيه. ويبدو أن الانتماء للفصيل يؤثر فى رؤيتك للعالم، فالآراء تختلف. الوضع أعقد مما نتصور إذا، يسهل علينا التفاخر بتخطى الحزبية فى مصر لكن فى فلسطين الانتماء للفصيل يعنى أكثر بكثير مما نتصور، فلكل فصيل تاريخ نضالى حقيقى، وسجل تضحيات، وقاعدة شعبية.
حسنا. بدأت أفهم لماذا رفع أقرب شباب قابلناهم لحالة شباب الثورة المصرية شعار «إنهاء الانقسام» بدلا من «إسقاط النظام»؛ فإنهاء الانقسام دعوة لتغيير النظام جذريا مع المحافظة على دور ومكانة الفصائل. ولكن لماذا قمعتهم السلطتان وتخلت عنهم أغلب الفصائل؟ رغم أن الكل يقر أن إنهاء الانقسام ضرورة لمواجهة المحتل؟
يصل القلق مداه. أحتاج أن أرى العدو المستتر ليستوعب عقلى الموقف. أتوجه مع أسرتى إلى معبر بيت حنون (حاجز إيريز) بوابة المرور إلى باقى الأراضى المحتلة. لا يسمح لنا رجال الأمن بالاقتراب. يتفهم الأصدقاء حاجتنا لرؤية العدو فيأخذونا إلى مزرعة صغيرة على أطراف بيت حنون، أقرب نقطة لجدار الصهاينة يمكننا الوصول لها.
وأخيرا، نرى العدو. فى الأفق: حوائط خرسانة وأبراج مراقبة وسيارات جيب تتحرك. يخبرنى صديق ـ كان منذ قليل يحاول أن يشرح لى معنى أن تولد لاجئا فلسطينيا فى أرض فلسطينية ـ أن الثكنة التى أراها على الجانب الإسرائيلى من المعبر بنيت على أنقاض قريته. على طرف حديقة فواكه يدعونى لقطف ثمرة. ألف حول الشجرة فيصيحون بى أن «احترس! العدو يراقبك الآن»، لو تقدمت خارج حدود الأرض قد تحدث عواقب وخيمة.
أخيرا، فى مرمى رصاص العدو وتحت طنين زناناته (الروبوتات الطائرة)، يهدأ قلقى. نشاكسهم قليلا بالاقتراب بأقصى ما يمكن لتصويرهم. نتمشى لا مبالين بحضورهم غير المستتر. وأخيرا نحظى بأروق وأصفى لحظات لنا فى فلسطين، نحكى عن كل شىء، الأولاد والأرض والعمل، الثورة والاحتلال والانقسام، السياسة والكرة والحب. عند الجدار ينتهى القلق، عند الجدار يتبدد الضباب.
عند الجدار أثر الحرب واضح، ليس فى أنقاض مبانى، وإنما فى صغر سن الأشجار. نظرة واحدة تلخص كل شىء: كل القديم جرف ولكن لم ننهزم وغرسنا من جديد. عند الجدار أفهم مغزى الحصار، يحكون لى عن صعوبة الوصول للبذور والسماد والعلف، اقتصاد الأنفاق ليس باقتصاد، لا يأتى بالمواد الخام ولا بمقدرات الصناعة والزراعة. الأنفاق تجارة رابحة لبضائع استهلاكية فقط.
يبذل الاحتلال الجهد والمال ويبنى تكتلات من الخرسانة والتكنولوجيا العالية أساسا ليمنع غزة من أن يكون بها نشاط اقتصادى حقيقى، يسيج العدو البحر ببوارجه الضخمة فقط ليمنع الصيادين أصحاب المراكب البسيطة من الوصول لمصايد السردين.
الفلسطينى هو ذلك الإنسان الذى يكافح ليحيا حياة طبيعية فى ظل ظروف استثنائية لا تنتهى. توالى انتصارات أهل غزة فرض على الاحتلال الانسحاب، فقرر الاحتلال أن يتركهم حبيسى انتصارهم، وقرر أن يحرمهم من أهم أداة للنضال: القدرة على الحياة الطبيعية. فمهما بدا على سطح غزة أن الحياة طبيعية فالحقيقة عكس هذا طالما الأغلبية العظمى من أهلها غير قادرين على السعى من أجل لقمة العيش (تتراوح تقديرات البطالة من ٦٠٪ إلى ٨٠٪). تدفق الأموال والبضائع من الخارج ليس بديلا.
خلقوا سجنا بمعنى الكلمة إذا: ففى السجن الأغلبية لا تعمل، فى السجن أيضا هناك اقتصاد تهريب تحت الأرض (عملته السجائر). لكنها ليست حياة حقيقية.
أتذكر خبرتى القصيرة بالحبس، أتذكر عندما حبسوا ٥٠ من حركة كفاية معا وكيف ضاقت بنا الزنازين ومرت علينا أيام انفجرنا فى بعضنا البعض وكنا نقضى اليوم فى مشاجرات ومهاترات بل وأحيانا تخوين. بعد الخروج من السجن تبددت كل الخناقات، لا نذكر أسبابها ولا تفاصيلها.
أتذكر الدكتور محمد حبيب حين حكى لنا فى أسيوط عن تجربة الحبس لسنوات، وكيف يتضاءل النضال والطموح حتى تسعه الزنزانة، ويصبح تعريف الحرية هو أن تتحكم فى متى يفتح الباب ومتى يغلق. يومها قال لنا نكتة عن استبداله كلمة «الحكومة» للإشارة إلى زوجته بكلمة «المأمور»؛ فبعد سنوات فى السجن لا ترى سلطة أكبر من المأمور.
يومها، حذرنا من الانسياق وراء أجيال انخفض سقفها ليتوقف عند مأمور السجن. اليوم فى غزة فهمت أن المسألة ليست أجيالا: كلنا يمكن أن ينشغل بصراعات الزنزانة حتى ينخفض سقفه ولا يرى إلا المأمور.
المشكلة ليست فى حماس أو فتح، المشكلة فى قبول أن تصير حبيس انتصارك، أن تنتصر على المأمور وترضى أن تحل محله ـ فقط. بدأت الأنفاق كفعل مقاومة، لكنها اليوم مصدر لضرائب الحكومة وثروات الكبار، بدون أن يختاروا هذا، كل يوم يمر على غزة تتواءم فيه السلطة مع الوضع، ويتسلق مستفيدون منه. اليوم تؤمن الشرطة الفلسطينية الجدار وتحاول إبعاد الجميع عنه: المقاتل حامل الصاروخ والمزارع الذى يرى أرضا خصبة تبور عمدا. الشر ليس دافعهم، أكيد يحاولون حماية الناس من بطش الاحتلال وحماية البلد من ذريعة قصف واسع، لكن النتيجة واحدة: صاروا سجّانين.
لا تتورط السلطة وحدها. ان كانت البطالة أصابت الكل، والاقتصاد خرب أغلبه، كيف تستمر الطبقية؟ لماذا يتفاوت الإحساس بالحصار؟ الطبقية مرفوضة دائما لكن يمكن تفسيرها بديناميكيات الأسواق فى أغلب المجتمعات، فى غزة جانب منها يبدو موروثا: قبل الحصار كنا هكذا وبعده سنستمر هكذا. يدرك الشباب زيف الوضع، لذا هم فى بحث دائم عن خطاب وحراك يصطدم بالأسوار، سئموا من أن يكونوا حبيسى الانتصار.
يشاركون الصيادين مغامراتهم فى الصيد رغم أنف البوارج أحيانا، والمزارعين فى الحصاد رغم أنف الزنانات أحيانا أخرى، يتظاهرون نصرة للثورات العربية بدون إذن من أى سلطة، يرفعون شعارا يبدو مهاودا ومنطقيا مثل «الشعب يريد إنهاء الانقسام» لكنه فى حقيقته شعار ثورى؛ فالمطلب معناه الشعب يريد ألا يلعب أحد دور المأمور. ربما لن تُخرج غزة محمود درويش جديدا، لكنها تُخرج راب غاضبا، لاذعا فى انتقاده للجميع، ولاذعا فى احتفائه بالبشر وحياتهم؛ مللهم وغضبهم وايضا لحظات فرحهم، يرفع خطاب المقاومة بدون مفرداته التى احتكرتها الفصائل.
فى مصر أيضا أرادوا حبسنا داخل انتصارنا، حررنا التحرير ووسط البلد، أطحنا بمأمور ومساعديه، حاولوا حصرنا فى التحرير، وفى التحرير انتقلنا من يوتوبيا المنتصر لخناقات الزنزانة الضيقة. لذا تفشل كل محاولاتنا لاستعادة حالة الميدان فى الميدان، انطلق شبابنا فى بحث محموم عن هدف جديد، تنقلنا بين الوزارات والسفارات، وحيث نجد جدارا ورصاصا ودما تطمئن قلوبنا. أفهم الآن لماذا تجتذبنا العباسية ووزارة الدفاع. فى مصر أيضا قد ينتهى بنا الحال إلى انتخاب مأمور جديد، أفهم الآن تزايد القلق كلما اقتربت انتخابات دفعنا ثمنها دما.
أول من طرح انهاء الانقسام كان الأسرى فى السجون، واليوم يقود الأسرى بإضرابهم نضال شعب بأكمله. تحاول السلطات والفصائل قيادة هذا النضال، ويذكرهم الأسرى بأدب حازم معْيَبة أن يفاوض حر شبعان نيابة عن أسير خاوى البطن. كيف نسمح أن يحل بنا العجز ونحن حبيسو انتصارنا بينما الأسرى ينتصرون وهم فى الحبس؟
الصدمة الأخيرة.. العودة
فى آخر يوم أحاول بإصرار أن اشترى زيت زيتون، فكيف أزور فلسطين وأعود بلا زيت زيتون؟ معى أيضا وردتان مزروعتان فى تراب فلسطينى. يمر اليوم بكل ارتبكاته ولا أجد وقتا لشراء زيت الزيتون، وفى المعبر فى طريق العودة أنسى الوردتين والتراب. شاء القدر أن يحرمنى من ابتذال فلسطين فى أى من رموزها المعششة فى مخيلتى.
أتبحث عن كلمات محمود درويش وتتجاهل كلمات شباب الراب الفلسطينى؟ أتبحث عن الأنقاض والحطام والركام وتتجاهل من رأيتَهم بنفسك يفردون حديدا لوته القنابل ليبنوا بيوتا جديدة؟ أتبحث عن زعتر وزيتون وبرتقال وتتجاهل أنك شربت القهوة مع من يناضل ليزرعهم؟ أتبحث عن المقاتل ذى البندقية والكوفية وتتجاهل الصياد والمزارع والطالب الذى يناضل كل يوم ليحيا؟ أتبحث عن أرض فلسطين وتتجاهل أن ابنك حظى لأيام بمحبة أهلها؟
غزة تقف باسلة تنادينا: تعالوا فعندى الحقيقة، بشر يحبون الحياة ويبغون الحرية. تعالوا فعندى الجدار الأخير، إن سقط سقط كل جدار وكل مأمور وسجان فى مصر كما فى سوريا. ابحثوا عن الجدران، فالعدو دائما وراءها والحقيقة دائما أمامها.
نصل البيت، فى كيس أسود صغير بعض ثمرات الأسكادنيا (البشملة). لم يتغنى بها الشعراء. تقول ويكيبيديا أن أصولها صينية، لكنها فاكهة حلوة من فلسطين، زُرِعَت رغم أنف الحصار وبجوار الجدار، قطفها صديق خصيصا لنا.
نعم، كنت فى، فلسطين.. نعم رجعت، ومعى فلسطين.
عن بوابة الشروق
١٤مايو (أيار) ٢٠١٢