لم يتضح بعد ماهية التنازل الجديد الذي قدمته سلطة عباس لتستحق لفتة “النية الحسنة” الصهيونية الجديدة هذه بتسلّمها رفات 90 شهيدا دفنها العدو في مقابر الأرقام، وربما تكون هذه هي “دفعة الأسرى” التي قال عباس أن نتنياهو قد وعده بإطلاق سراحها.
السلطة الفلسطينية التي لم تعد سوى كلب حراسة للاحتلال عوّدت الاحتلال على إرضائها بالفتات والعظام، وهذه المرة جاءت العظام حرفيّا إذ استهلكت السلطة حيّز المجاز اللغوي بموت شاعرها.
وجدانيا ستنكأ عودة الشهداء الكثير من الجراح، وكما سترقص فوقها النخبة الفلسطينية المفلسة سياسيا، ستعيد الذاكرة المعنى إلى الكلمات، فنتذكر اتجاه البوصلة.
تعود اليوم رفات قادة استشهدوا في الأسر، أبطال موت “يغيظ العدى” إلى حد يدفعه إلى معاقبتهم بعد الموت.
بالنسبة لجيلنا فإن ظهور إسم بطل انتفاضة 1988 وقائد الفهد الأسود المناضل المفقود عبد الناصر البوز بين الأسماء، يسدل الستارعلى لغز اختفائه الذي تحول إلى أسطورة عاشها شباب الانتفاضة، ولهذا الحديث مقام آخر.
اللافت للنظر هذه المرة هو إثبات السلطة التي تحاول أن تستمد شرعيتها من تاريخ ورموز حركة المقاومة الفلسطينية، أثبتت مجددا قطيعتها مع هذا التاريخ من ناحية معرفية أيضا.
السلطة لا تريد أن تعلم، فلا داعي لفحوص الحمض النووي، وادفنوا واشكروا وكان الله بالسر عليم، أي أن العدو قد تكبد سدى مشقة استخراج وتسليم جثث كان بإمكانه الاستعاضة عنها بعظام من بعض المسالخ، فالطرف الفلسطيني قنوع بشكل مذهل، طالما كل شيء قابل للتغليف بالكوفية الظريفة وبالعلم رباعي الألوان.
السلطة التي فاوضت على الأرض مستخدمة خرائط العدو، تقدم لنا الشهداء بقوائم أسماء سلمها لهم العدو، فتحول في عجلة السلطة لتنظيم المهرجان ودفن المعنى أبطال معروفون لعمليات مشهورة إلى جنود مجهولين لا بواكي لهم ولا من يتسلمهم، تدفنهم السلطة في فسقية وطنية في رام الله.
سبعة عشر إسما سلمها العدو بتواريخ وأماكن استشهاد واضحة ومحددة، وعجزت سلطة رام الله التي ألقت وثائق مركز أبحاثها في مكب نفايات غزاوي عن معرفة أهاليهم أو حتى مدنهم… الجنود المجهولون يتحولون إلى “شهداء عرب سقطوا من أجل الثورة الفلسطينية”، وهؤلاء لا بواكي لهم إلا خارج الإطار الإدراكي لنخبة رام الله فاشية الطابع.
ولو تساهلنا لحظة في موضوع العرب، فماذا عن شهداء عملية السافوي التي تغنت بها فتح، حزب السلطة، طيلة 35 عاما؟
قائمة الأسماء فيها ثمانية: خضر محمد، احمد محمد، موسى عبد، ابو الليل (؟؟؟)، مداحة محمد، زياد صغير، محمد المصري، محمد طه طي قاسم، حيث نشرت اسماءهم الى جانب اسم فندق سافوي، وتاريخ الاستشهاد… هل تكتفي فتح بالإسم الحركي “أبو الليل” لتهيل التراب على المناضل والحكاية؟
الصحافة الفلسطينية التي يكتبها على ما يبدو رهط من الأميين استنسخت بعضها ونفسها في تقارير من مصدر وحيد في الإنترنت وصفته بالمصدر المصري، مستخدمة الاسماء التي قدمتها قائمة العدو، وهنا نتساءل ماذا عن صحفيي جهاز م ت ف الذين يثيرون مللنا كل يوم في ذكرياتهم عن لبنان التي بها يردون على كل سؤال راهن؟
بعملية بحث ليست بالمعقدة، يتبين لنا أن أسماء أبطال عملية السافوي، حسب التوثيق الدقيق للعملية الذي قدمته منظمة الصاعقة في كتابها عن العمليات النوعية (من أين يأتي الفدائيون، عبد الرحمن غنيم، منشورات الطلائع)، هي التالية:
خضر أحمد جرام (الملازم خضر)، قائد المجموعة، من مواليد الرملة 1947
عمر محمود محمد الشافعي (أبو الليل الهندي) ، من مواليد جنين 1955
أحمد حميد أحمد أبو قمر (أبو عبيدة الجراح) ، من مواليد غزة 1948
عبد الله خليل عبد الله كليب (مصالحة خليل الهزّاع)، من مواليد طولكرم 1955
محمد ضياء الدين الحلواني (عصام بهاء الدين السيوفي)، من مواليد نابلس 1948
موسى العبد أبو ثريا (موسى عزمي)، من مواليد غزة 1957
نايف نجد اسماعيل الصغير (زياد طارق)، من مواليد أذنا-الخليل 1954
موسى جمعة حسن (موسى احمد)، من مواليد السلط 1952، وهو الناجي الوحيد وقد أفرج عنه حسب تقرير “الايام” في تبادل للأسرى وتوفي في عمان
الصور وبيانات المقاتلين على الرابط التالي:
http://www.antiimperialista.org/ar/node/7373
من الممكن مقارنة الأسماء الواردة أعلاه مع قائمة العدو، فنصحح ما هو خاطئ، ويتبين لنا احتمال وجود عائلات وأهال لهؤلاء الشهداء، معظمها في مدن الضفة وغزة، من واجب السلطة تقصي المعلومات عنهم بدلا من الاستعجال ببناء منصى المهرجان..
منفذي العملية هم إذا ثمانية استشهد سبعة منهم، في حين تضم قائمة العدو ثمانية أسماء، فمن يكون التاسع؟
على القارب الذي انطلق منه المنفذون وأسره العدو قبالة الساحل القبرصي كان هناك أربعة بحارة مصريين، وضابط فلسطيني، إسمه حسب أقول المصريين حامد أحمد نديم درويش. المصريون أفرج عنهم في تبادل للأسرى والرفات مع الحكومة المصرية، في حين لا معلومات عن الضابط الفلسطيني. هل استشهد مثلا تحت التعذيب الشنيع الذي تحدث عنه البحارة المصريون؟ أين من يتشدقون بتاريخ م ت ف؟ لا تاريخ؟
إن نخبة فلسطينية لا تعبأ حتى بتدقيق أسماء من يساومها العدو عليهم من شهداء، لا تفاجئ أحدا بتوفيرها لتكاليف فحص الحمض النووي.
من يستهتر بالأرض وبحياة ومستقبل الأحياء، لا نتوقع منه ان يكون أمينا على ذكرى الأموات.
ربما يكون الرد الشعبي الأمثل هو استذكار الحكايا وإعادة الوجوه والأسماء لشهداء الثورة، أما العظام، فربما يكون الأمثل هو أن نقذف بها الواقفين على منصة الخطابة، فيؤدي الشهداء مهمتهم الأخيرة قبل أن نودعهم من جديد.