لا يسع من يتابع تطورات الأحداث المترتبة على الفيلم المسيء للرسول في مصر والعالم العربي إلا أن يشعر بحسرة شديدة على ما آلت إليه أحوالنا، بعدما كشفته عبثية الأحداث من تدني مستوى الوعي المهيمن في البلاد ومحدودية قدرات القائمين على الأمور فيها. وقد استفاض الكثير من الزملاء في تحليل ردود الأفعال على هذا الحدث بالفعل. منهم من أشار إلى أن مجريات الانتفاضة التي أعقبت الفيلم ساهمت في نشر فيلم تافه يعيب في الرسول في كل أرجاء العالم تحت إدعاء مناهضته. فلا أظن أننا شاهدنا فيلماً راج بهذا الشكل في خلال العقد الأخير، بما في ذلك الأفلام الجيدة والمثيرة، فما بالنا بمقاطع فيديو شديدة البلاهة. ومن هنا فلابد وأن منتجي هذا الفيلم المفترض يشعرون بالإمتنان الشديد لانتفاضتنا الغاضبة بعدما أسهمت في نشر فيلمهم التافه على أوسع نطاق ممكن. فلولا انتفاضاتنا لما شاهد هذه المقاطع أكثر من عشرة أفراد، كانوا سيضحكون عليه في النهاية.
أما الآن فيعتبر الكثيرون من مواطني الدول غير الإسلامية من قاموا بإنتاج هذا الفيلم من أبطال حرية الرأي والتعبير الذين يناضلون ضد قوى الظلام. ومن هنا يتضح للأسف أن ردود الأفعال العربية هي التي تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والدينية على نشر فيلم أبله على هذا النطاق الواسع، وما اشتمل عليه من إساءة للرسول، وتمكين فيلم عبيط من إضفاء قدسية “الحريات” على مضمون تافه. كذلك تعرض عدد من الكتاب من قبلي إلى ما أنطوت عليه ردود الأفعال من أسواء دعاية ممكنة للإسلام والرسول، ساعدت في النهاية من زيادة النفور من الدين الإسلامي في العالم، وليس العكس كما ظن القائمون عليها.
كما ارتكزت معظم ردود الأفعال الغاضبة على بديهيات شديدة العنصرية تجيز معاداة دول وشعوب كاملة على أساس ما يقوله عشرة أفراد أو أكثر قليلاً. ولم يقتصر ذلك على إدانة المجتمع الأمريكي بأسره، وتحميله مسؤولية أفعال عشرة أشخاص سفهاء، وإنما تجاوزت ذلك إلى التعميم على كل ما هو أبيض أو غربي أو مسيحي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما لم تجد القوى الإسلامية في إيران مؤسسات أمريكية تتظاهر أمامها قامت بالتظاهر أمام سفارة سويسرا في طهران. في حين حاولت القوى الإسلامية في السودان حرق سفارتي بريطانيا وألمانيا احتجاجاً على فيلم مسيء للرسول يفترض أنه نشر في أمريكا. ونجحت بالفعل في إشعال النيران في السفاراتين. وناب مسيحيو مصر جانب من هذا التعميم بالطبع، وصل ذروته في قيام المتظاهرون الذين شاركو في مليونية التحرير أمس الأول بكتابة شعارات شديدة العنصرية والتدني على سور كنيسة الدوبارة، التي طالما ساعدت كل المتظاهرين وقدمت لهم العون في أثناء كل الاعتصامات، مسلمين ومسيحيين، ولذلك عرفت بإسم كنيسة الثورة.
دور الإخوان
وعلى الرغم من أهمية ما تقدم، يظل الدور الطفولي الذي لعبته جماعة الإخوان في هذه الملحمة هو أهم ما فيها. فقد لعبت الجماعة دوراً أساسياً في تأجيج مشاعر الغضب ودفعها نحو التظاهر أمام السفارة قبل أن تتراجع وتدين المتظاهرين، ثم تبرر اعتقالهم في وقت لاحق. وأدى تخبطها الشديد إلى إلحاق الضرر بها وبنا جميعاً. فلا يوجد شك أن الجماعة خسرت الكثير من جراء تخبطها وأخطائها ومن ورائها الدولة المصرية، حتى وإن ظنت أنها كسبت المعركة الطائفية المحلية. وعلى الرغم من تعدد مستويات الخطأ الذي ارتكبته الجماعة في حق نفسها، وتجلياته، إلى أن أحداً لم يتوقف عند تدعياته بالشكل الكافي.
فأول ما يلاحظ هنا أنه يحق طبعاً للجماعة من حيث المبدأ أن تدعو للغضب ضد فيلم يسيء للرسول. لكن جرت العادة أن الابتعاد عن التعميم العنصري يفيد القضية أكثر من التعميم العنصري الذي يوسع الحرب إلى نطاق حضاري أكبر من اللازم. وحتى لو قبلنا بالحق في التعميم في هذه الحالة من باب “فاض بنا الكيل،” تبقى إشكالية تقديم نفس الحق للجانب الآخر على طبق من ذهب. وهنا يبرز سؤال أساسي: كيف ستتعامل الجماعة مع التعميم المضاد ضد كل المسلمين الذي يجيده اليمين الغربي؟ هل طورت رؤية معينة للتعامل مع ذلك؟ وهل لديها خطط محددة؟ أم ستترك الأمر للظروف؟ وهل تريد هذه المواجهة أصلاً؟
وعلى نفس المنوال، طالبت قيادات الجماعة الغرب بتغيير قوانينه بما يمنع ازدراء الأديان، وفي هذا قبول بالتدخل في شؤون الآخرين ينتهي بضرورة قبول الجماعة هي الأخرى ببديهية فرض قييم ثقافية غربية على القوانين المصرية–فهل هي مستعدة لقبول ذلك؟ أم ستناضل من أجل قصر التدخل في شؤون الآخرين فيما يخص الدين وحده؟ وكيف ستفرض تحديد التدخل في نطاق ازدراء الأديان فقط؟ هل لديها كروت ضغط غير مهاجمة السفارات؟ وهل تعي شكل الخريطة العالمية أصلاً، التي لا تحصر الأديان في شيء أسمة الديانات السماوية؟ بمعنى، هل ستمنع إزدراء بوذا و”الأصنام” الهندوسية في مصر؟
مثل هذه التساؤلات تفرضها الاستحقاقات المنطقية لموقف الجماعة. لكن كالعادة تزول هذه الاستحقاقات في ميزان القوة–فهل ميزان القوة في صالح الجماعة؟ أم كان أجدى بها أن تتجاهل الفيلم وتتركه يموت تحت تفاهة مضمونه؟ الإجابة العقولة الوحيدة في هذه الظروف هي أن نهج التحدي الذي انتهجته الجماعة هو، بغض النظر عن المنطق واستحقاقاته، مقبول فقط من منطلق مقاومة الاستعمار، الذي لا يرهن الفعل المقاوم إلى منطق ميزان القوة. فمنطق المقاومة هو المنطق الوحيد الذي يفسر مهاجمة سفارات ألمانيا وبريطانيا في الخرطوم بشكل مقبول وشرعي تماماً، على أساس أن لهذه التحركات الغاضبة مشروعية واضحة منبثقة عن عداء هذه الدول لشعب السودان ودعمها لاستعماره والاستحواذ على ثرواته. لكن أي منطق آخر غير منطق المقاومة سيجر الجماعة نحو الاستحقاقات المنطقية سالفة الذكر، وهي استحقاقات ينظمها الواقع العالمي لصالح الجانب الأقوى طبعاً، الذي هو أمريكا.
هذا إذن هو مربط الفرس ويفرض علينا سؤالاً بديهياً: هل تنوي الجماعة مقاومة أمريكا؟ فإذا كانت تنوي ذلك يصبح ما فعلته مقبولاً تماماً ويجب مساندته دون أي قيد أو شرط، أما إذا كانت تلعب لعبة “لوع” مع أمريكا فتكون قد خسرت كثيراً ويجب علينا توخي الحذر مما تفعله. وللأسف تؤكد كل المؤشرات على أنها تلعب لعبة “لوع” سخيفة تظن أن خطابها المزدوج سيكون قادراً على التغطية عليها، كما سيتضح بعد قليل.
مقاومة أمريكا
لا يوجد دليل على عدم نية الجماعة مقاومة أمريكا أقوى من تزامن حملة الإخوان لمناهضة أمريكا المفترضة مع زيارة وفد أمريكي أمني للتفتيش على حدود مصر مع غزة والتأكد من هدم الأنفاق. وتضمن ذلك قيام الأمريكان بالإعلان عن تركيب أجهزة متطورة لرصد تحركات القوات المصرية في سيناءـ وبرر وزير الدفاع الأمريكي ذلك قائلاً، “نحن فقط نريد التأكد من اننا نعرف كيفية تمركز هذه القوات (المصرية) لكى نصبح أكثر كفاءة وفاعلية فى مكافحة الإرهابيين.” وفي هذا السلوك المهين (الذي أسسه نظام مبارك) تجاوز شديد على السيادة المصرية، تلتزم به جماعة الإخوان لما عليها من استحقاقات منبثقة عن التدخل الأمريكي لضمان نقل السلطة كاملة إليها. وتبع زيارة وفد التفتيش الأمريكي تحركات قلقة في غزة للمطالبة بعدم هدم كل الأنفاق إلا بعد إيجاد بدائل لإيصال الغذاء لغزة، ما يكشف نجاعة مجهودات هدم الأنفاق التي تشرف عليها أمريكا (على الرغم من أن بعض القوى تظن أن ما يحدث بخصوص هدم الأنفاق هو فيلم غير حقيقي). كما تزامن التصعيد ضد أمريكا والاحتشاد أمام سفارتها من أجل نصرة الرسول مع تصريح حزب النور، شريك الإخوان في التصعيد الأخير، بوجوب احترام اتفاقية السلام مع اسرائيل وقبوله للحوار معها من حيث المبدأ.
وعليه، كانت قيادات الإخوان تصعد ضد أمريكا في نفس ذات الوقت التي كانت تقوم فيه بضمان مصالح أمريكا طبقا لترتيبات حسني مبارك الخاضعة. في حين كانت قيادات السلف تصعد ضد أمريكا في نفس الوقت الذي كانت تطلق فيه مبادرات حسن نوايا تجاه إسرائيل. وتزامنا جانبا السلوك المزدوج معاً على نحو دقيق وكاشف، حيث خرجت الدعوة بالتظاهر ضد سفارة أمريكا في نفس يوم الإعلان عن التفتيش والقبول بالحوار مع اسرائيل.
نحن إذن لسنا بصدد مشروع مقاومة حقيقي، ولا يوجد على ما يبدو أي مجال لذلك. بل نحن أمام مشروع “لوع” تظن الإخوان أنها تستطيع من خلاله الضغط على أمريكا من أجل تحقيق مكاسب تفاوضية تضمن لها استقلالية نسبية، ذلك من جانب، وتسترضي من جانب آخر المشاعر الإسلامية حتى لا تفقد جماهيريتها في ظل وجود جماعات إسلامية على أتم استعداد للمزايدة عليها في هذا المجال. وهكذا فرضت عليها خيارتها الجؤ إلى خطاب مزدوج فشل في النهاية في إرضاء طرفي المعادلة: الشعب المصري والأمريكان.
هنا تبرز نقطاتنا هامتان، الأولى أخلاقية والثانية استراتيجية. أولاً، هل يحق للجماعة أن تقود الناس إلى هذه المواجهات وما تخللها من سقوط ضحايا وإصابات وأضرار مادية في حين أنها “لم تكن تنتوي” المواجهة أصلاً؟ ألم يكن عليها أن تخبر الناس بحقيقة رهاناتها؟ وهل تستطيع السيطرة على ما دشنته من تحرك أو تلوم من صدقوها؟ وثانياً، كيف تضمن الجماعة اتباع هذا النهج المزدوج دون أن تخسر الجانبين؟
منهجية “اللوع” وحدودها
بشكل تفصيلي، شاركت الجماعة بشكل مباشر وحثيث مع حزب النور ورموز الدعوة السلفية في تأجيج ردود الأفعال الغاضبة على الفيلم المسيء. بل هم الذين بدأوا هذه الحملة. حيث سخرت قنوات هذه الفصائل التلفزيونية كل طاقتها لشحن العواطف ذات الصلة وحشدها إلى التظاهر لنصرة الرسول أمام سفارة الولايات المتحدة الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي. وهكذا دشنت فعاليات غاضبة خرجت في النهاية تماماً عن سيطرتها وتوقعاتها بعد أن صدقتها الجماهير. بمعنى آخر، لم تفكر هذه الجهات في “صرف العفريت” قبل تحضيره.
كما شاركت في هذه الحملة قيادات كبرى بالجماعة بشكل مباشر، مثل خيرت الشاطر وعصام العريان ومحمد البلتاجي، وهي من قيادات المستوى الأول، وما يقولونه يمثل الجماعة. وعليه فما نتابعه الآن من دراما حزينة تخللها استشهاد مواطنين، وإصابة ثلاثمائة، واعتقال ثلاثمائة آخرين، أتت نتاج حسابات خاطئة تماماً من أعلى قيادات الإخوان، لا من تصرف عاطفي لكوادر وسطى أو قواعد الجماعة.
على سبيل المثال، أشاد خيرت الشاطر في البداية بالمظاهرات ضد أمريكا بشكل لا يتحمل تأويلاً مغايراً، ما أنطوى على دعوة للمتابع بضرورة المشاركة فيها. في حين صرح عصام العريان أن “مطالبنا اليوم محاسبة من وراء الفيلم واتخاذ اجراءات دولية قانونية لمنع اﻹساءة لكل اﻷديان والمقدسات، الدين ليس اقل من محرقة الهولوكست.” وهذا يعني أنه عرف نفسه على أنه جزء من المظاهرات حينما استخدم لفظ “مطالبنا اليوم،” وفي الضمير المستخدم إدعاء واضح بملكية التظاهرات.
وعلى الرغم مما في ذلك من افتراضات من نوع المطالبة في التدخل في شؤون الدول الأخرى، وما يتبع ذلك من استحقاقات مضادة، إلا أنه في حد ذاته حق هؤلاء لو كانوا ينوون المقاومة كما قلت من قبل. إما إذا كان ما يفعلونه مجرد محاولة للضغط لا المقاومة فيضرها ما أنطوت عليه هذه التصريحات من مغالطات شديدة لا تليق بمقام قيادات على مستواهام.
على سبيل المثال لا الحصر، تنتشر بالمجتمعات الغربية الأفلام والمقالات التي تسخر من المسيحية بمعدل مئات أضعاف المقالات التي تسخر من الأديان الأخرى. وعليه فمبدأ معاملة الدين الإسلامي بالمثل (في هذه الحالة تحديداً) لا معنى له سوى الإكثار من السخرية من الإسلام. وكان أجدى بهم التركيز على التمييز ضد الملسمين واحتلال أراضيهم والنفاق الجاري بخصوص الإسلام في الدول الغربية، لا التطرق لمبدأ إزدراء الأديان من حيث المبدأ. كذلك تنطوي هذه المقولات على افتراض أنه يحق لدولة مثل مصر أن تفرض على دولة مثل أمريكا أن تشرع ما يلزم لمنع إزدراء الأديان كما يحدث في مصر، وهو افتراض غير واقعي بالمرة. وعلى نفس المنوال، إنطوت تصريحات العريان، وهو مستشار الرئيس للشؤون السياسية، عن جهل شديد بمؤسسة الهولوكوست. فأولاً، لا علاقة للقوانين الخاصة بالهولوكوست بالدين اليهودي. بل هي قوانين تجرم إنكار الهولوكوست على خلفية مآساة إبادة يهود أوروبا التاريخية. بمعنى آخر، هي قوانين نابعة من التجربة التاريخية للدول التي تعمل بها. وعليه فلا مجال للمقارنة بين الفيلم والهولوكوست أصلاً، والقيام بذلك يدعو للضحك. والأهم من ذلك هو أن هذه القوانين يعمل بها في عدد محدود جداً من الدول الأوروبية التي تورطت في محرقة اليهود، وليس من بينها أمريكا. وعليه فكأن العريان يطالب أمريكا بتطبيق شيء تطبقه بالفعل، استناداً لمقارنة غير منطقية. وبكل تأكيد سيصعب على الجمهور الأمريكي فهم ما يعنيه أصلاً. كذلك لا يوجد شك أن العريان نفسه لا يستطيع تطبيق مطلبه، حيث من غير الوارد أن يطبق قانون يمنع إنكار الهولوكوست في مصر، وعليه فماذا لو ردت أمريكا: “ماشي، نمنع ازدراء الرسول وتمنعوا التشكيك في الهولوكوست،” هل سيستطيع تطبيق ذلك؟
والأهم هو أن الجماعة اتفقت مع الأحزاب والمنظمات السلفية على التظاهر أمام السفارة الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي، لكنها لم تشارك في المظاهرة وغابت رموزها عنها. هذا ما دفع نادر بكار إلى التصريح بأن الجماعة أخلفت وعدها لهم بعد ما وجد التيار السلفي نفسه وحيداً أمام السفارة ومعه فقط مجموعات صغيرة من أفراد الألتراس. وبدأ بعدها التيار السلفي فوراً في لوم الألتراس على اقتحام السفارة وحرق العلم الأمريكي والتنصل مما حدث. هكذا بدأت مشكلات الحديث المزدوج تتكشف.
ثم تعفف الرئيس مرسي عن إدانة اقتحام السفارة الأمريكية في القاهرة بشكل حاسم في أول الأمر، فعقد من علاقته مع أمريكا أكثر. فما كان من أوباما إلا أن رد عليه بعنف قائلاً، إن مصر ليست حليفة وليست عدوة. وهو أول تصريح أمريكي يضع مصر في مصاف “غير الحلفاء” منذ أربعة عقود. بمعنى آخر، أدى خطاب الإخوان المزدوج لرد فعل أمريكي مبني على تصديق أمريكا لجانب من جانبي خطاب الإخوان المزدوج، أو الجانب الذي يهم أمريكا.
وفي أعقاب تصريح أوباما قام الرئيس مرسي بالتنديد باقتحام السفارة بشكل حاسم وتلى ذلك تراجعات متسرعة من الجماعة بعدما تبين لهم خطورة اللعبة التي يلعبونها. حيث تراجعت الجماعة أولاً عن تأييد مليونية الجمعة في التحرير، على الرغم من أنها هي التي دعت لها، وحمل مانشيت جريدة الحرية العدالة يوم الخميس التأكيد على أن الجماعة ستتظاهر أمام المساجد الكبرى في حين أن قوى ثورية ستذهب إلى التحرير، على الرغم من أن معظم القوى الثورية لم تشارك في هذه التظاهرات أصلاً. فما كان من حزب النور إلا أن أصدر بياناً هو الآخر تراجع فيه عن مواقفه السابقة وطالب فيه المتظاهرين بالابتعاد عن السفارات على الرغم من أن نادر بكار كان من نجوم المظاهرة التي اقتحمت السفارة. وتوالت الفتاوى بحرمة التعرض للسفارات الأجنبية.
بعدها نشر الشاطر اعتذار ضمني في جريدة النيويوك تايمز، أهم جريدة أمريكية، باللغة الإنجليزية. وقام البلتاجي في نفس اليوم بالتنصل من التظاهرات قائلاً: “أحداث السفارة ينفق عليها نزلاء طره وينفذها النخانيخ،” وهو نوع من التنصل من الحدث ينطوي على تجريم القائمين به. وتابعه رئيس الوزراء بالتأكيد على تجريم المتظاهرين، مدعياً أن بعض المتظاهرين حصلوا على أموال لمهاجمة السفارة من جهات محرضة لا تريد لمصر الاستقرار، دون أن يفصح عنها. وفي ذلك تجريم مماثل للمتظاهرين يذكرنا بما كان يقال في حق الثوار في العهود السابقة على حكم الإخوان، وإعادة احياء لحدوتة “الطرف الثالث” الذي لا يعلن عنه أبداً. وأدى التنصل من هذه المظاهرات في النهاية إلى اقتراح خمسة مشروعات لقوانين تحد من حق التظاهر والإضراب، تبعه قيام الجمعية التأسيسية لوضع الدستور بإعادة النظر في المواد الخاصة بحق التظاهر. في حين بدأ بعض الكتاب الكبار، مثل فهمي هويدي، ينادون بضرورة مواجهة الصحف التي ابرزت العنصر الطائفي والإسلامي المتشدد في المظاهرات، مقترحين القيام بالرقابة على الصحف.
وهذا يعني أن الإخوان دفعوا في النهاية إلى شيء غير الذي بدأوا به تماما، بعد أن فرض عليهم ميزان القوة والاستحقاقات المنطقية لموقفهم الملاوع أن يواجهوا الشعب، لا أمريكا. ويبدو أن الإخوان لا يعون أنه لا يمكن لأحد أن يتحكم في مجريات التعبئة الشعبية والتسخين السياسي، “فدخول الحمام مش زي خروجه.” ولا يفهمون أنه لا يمكن لهم أن يحتفظوا بخطاب مزدوج دون خسارة الجانبين، وهذا ما ظهر في رد فعل السفارة الأمريكية التي أكدت لهم أنها تتابع ما يقولونه بالعربي، من جانب، ومن جانب آخر في حجم الإصابات والاعتقالات التي واكبت الحدث. والأهم من ذلك هو أنه لا يحق للإخوان أن يدفعوا آخرين في مسار سيدينوه ويتبرأوا منه بعد يوم من اتخاذه لما في ذلك من عدم أمانة. ولن تجني الإخوان أي فائدة من جراء ذلك، فطريقة إدارتها للأمور أدت إلى فشلها في احتواء الجانبين فقط لا غير.
وفي النهاية، لا يحق للإخوان أن تلعب بخطاب مقاومة زائف لتبرير موقف مهادن من الاستعمار على الأرض. وما حدث يعني فقط أنها وضعت نفسها في موقف حرج سيتبعه تقديم المزيد من التنازلات للاستعمار، وليس العكس. ومن جانب آخر سيؤدي إلى قيامها بمواجهة القوى السياسية التي لن تمتثل لتقييد حقوق التظاهر والإضراب وحرية الرأي والتعبير–بعد أن أدى تخبط الجماعة لإجبارها على للتضييق على هذه الحقوق. فالخطاب المزدوج ليس خطاباً ذكياً وإنما يؤدي في النهاية إلى خسارة مزدوجة. ومن الأفضل للجماعة أن تحسم موقفها من مقاومة المشروع الأمريكي بشكل علني، حتى لا تخرج من أزمة محرجة لتدخل أزمة أكثر إحراجاً. وفي النهاية سندفع نحن ثمن هذا اللوع.